مزاح.. ورماح
شاحن إيماني
بعد أن أخبّئ حذائي خلف أحد الأعمدة وأعلّمه بعلامة فارقة في المكان، أدخل وأصلي ركعتي تحية المسجد، ثم «ادوزن» جلوسي منتظراً صعود خطيب الجمعة إلى المنبر، خبرتي الطويلة بالخطباء منحتني رصيداً إضافياً في الفراسة، فإذا كان الخطيب سميناَ وطويلاً فغالباً ما يكون موضوع خطبته عن «القناعة»، وإذا كان سميناً وقصيراً كانت خطبته عن «التسامح»، وإذا كان طويلاً ونحيلاً كانت عن «نواقض الوضوء»، أما إذا كان قصيراً ونحيلاً فعن «رضا الوالدين»، لا محالة.
هي الموضوعات ذاتها التي تلف طوال «جُمع» السنة، وكأن ديننا العظيم لم يتطرق إلا لتلك القضايا، ناسين أو متناسين خطباؤنا - أو من يكتبون الخطبة الموحدة - أن عليهم واجب قيادة الأمة وتنبيهها والانتصار لها، ليس فقط بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما بنبش قضاياها المعاصرة والتفكير في إيجاد حلول لكل ما تعيشه الأمة من أمراض.. إذا كنتم تخشون على رزقكم بالتطرق إلى نقاش القضايا السياسية، فلا بأس، فهناك ألف قضية اجتماعية تستطيعون أن تضعوها على المشرحة لتتكلموا فيها بشفافية وصراحة.. المهم أن تتذكروا دائماً أنكم أصحاب رسالة لا أصحاب وظيفة!
أقول هذا لأنني بصراحة منذ سنوات لم أستمتع بخطبة جمعة واحدة، ولم تضف أي منها «فولتاً» إيمانياً واحداً إلى بطارية «التقوى» خاصتي، فبمجرد دخولي المسجد أبدأ بالزحف المدروس نحو أقرب عمود مسترخياً تحت هواء المكيف القادم من الزاوية المقابلة، وعلى طبقات صوت الخطيب المتقاربة، وعباراته المسجوعة، أُبقي على رفع جفني الثقيل كلما حاول أن يطبق غير مرة على «البؤبؤ» في جو من النعاس الجميل.
الجمعة الماضية دخلت في تحد بيني وبين نفسي، شخصت ببصري نحو المنبر، وفتحت أذني جيداً، قلت سأركز في الخطبة من أولها إلى آخرها، لكني بصراحة فشلت، فبعد مقدمة طويلة أخذت ربع ساعة، بدأ عنقي في التمايل يمنة ويسرة، ثم تقوّس ظهري، ثم زحفت بقوائمي إلى أقرب عمود، فأطبق جفني العلوي ببطء على جفني السفلي، وفي سكرات النعاس سمعته يتحدّث عن «التسامح» في أحد أجزاء الخطبة، ثم قفز بقدرة قادر إلى «الرضاعة الطبيعية» ثم عاد إلى «إعداد العدة»، ثم انطلق إلى «تربية النفس»، ثم عرّج على القدر مستشهداً بالآية الكريمة «قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا». ثم فتحت عيني ويدي على الاستغفار عندما رفع طبقة صوته قليلاً «هذا وأستغفر الله لي ولكم، يا فوز المستغفرين».
متى سنصل إلى قناعة بأن المسجد أهم وسيلة إعلام مؤثرة، وأن الخطبة أمانة حقيقية في أعناق الخطباء، فمن لا يقدر على حملها فليعتزل ويريحنا.
باختصار أكثر، هناك مليار ونصف مليار مسلم، يحتاجون إلى شاحن إيماني قوي، فمؤشر إيمانهم بدينهم وقضاياهم وأوطانهم يعطي: '' Low battery''
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه.