ذاكرة ماركيز
ترى ما الذي على المبدع فعله في حالة خيانة جسده، هذا الجسد بعفويته وطاقته الطافحة بالتفاعل مع كل تفاصيل الحياة، هذا الجسد الذي يعتبر المضخ الأساسي والأصيل لكل إنتاجاته الإبداعية؟
وأنا هنا أتساءل عن حالة الذعر التي من الممكن أن يُصاب بها المبدع في حالة يرى فيها الجسد (جسده)، وهو يخور أمامه ويفقد حيويته في الإقبال على الحياة، وأخذ رحيقها الإبداعي، ليركن هو وروحه الى زاوية مقفرة يراقب فيها جسده الطليق المتحفز وهو ينهار أمامه.
مناسبة طرح هذه التساؤلات ما ذكرته بعض الصحف، خصوصاً ما أفادت به المراسلة الأدبية لجريدة «أ.ب.س» الإسبانية، اليخندرا فينغوإتييّا، بأن أحد الأصدقاء الحميمين للكاتب الكولومبي (صاحب نوبل) غابرييل غارسيا ماركيز، قد أماط اللثام عن تدهور ذاكرة صديقه ماركيز.
وبعد أن يستعرض هذا الصديق رحلة ماركيز الوعرة مع مرض السرطان الليمفاوي، ونجاته من المرض، وفقدن ماركيز شقيقه الذي حزن على وفاته حزناً شديداً، موضحاً أن ماركيز قاوم كل هذه العثرات وكتب سيرته الذاتية الموسومة «عشت لأروي»، مشيراً الى أن ماركيز عاد بعد ذلك مع زوجته ميرسيدس الى قريته أركاتاكا، والتي ترمز الى قرية ماكندو التي جرت فيها أحداث روايته «مائة عام من العزلة»، كي يُدشن انطلاق أشغال إعادة ترميم بيته القديم، ولم نعد نذكر عنه شيئاً.
المهم أن الأخبار بدأت تتطاير عن ماركيز أنه قد بدأ يعاني فقدان الذاكرة، وبدأ التباري بين أصدقاء ماركيز، إذ يقول أحدهم: «فلنبحث عن دواء ناجع، أو وصفة طبية لإنقاذ ذاكرة غارسيا ماركيز حتى لا يموت مخدوعاً».
لكن الأهم من كل ذلك هو حالة الخسارة التي من الممكن أن يحس بها المُبدع في حالة فقدانه ذاكرته، تلك الذاكرة التي منذ أن تخلقت جنينياً وحتى كبرت وشاخت ظلت هي المغناطيس الذي يلتقط أدق التفاصيل الحياتية، كي يخزنها، ويضخها في رواية محبرة تستحق بالفعل أن تحصل على جائزة نوبل.
وهذا ما فعله ماركيز الذي استطاع أن يقنعنا في واقعيته السحرية في رواية «مائة عام من العزلة» بأنه يمكن للمرأة التي صعدت الى سطح بيتها كي تنشر غسيلها أن تطير!
وذاكرة ماركيز هي التي وصفت «خريف البطريرك»، وهي التي عزلت الجنرال في وحدة نادرة بحيث لم يجد من يراسله.
أعترف بجد أني حزنت على فقدان ماركيز لذاكرته، وفكرت في المتاهة الطفولية التي عاد إليها بعد هذا العمر الطويل، وأية متاهة؟!
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .