حُمّى التنحّي
كل شهر كان «الختيار» يحمل عكّازه، ويتجه إلى حلاق القرية الوحيد، يفتح باب الصالون ويجلس على الكرسي أمام المرآة، متخطيّاً كل المنتظرين أدوارهم، وإذا ما سمع احتجاجاَ هنا أو هناك من الجالسين، كان يسكتهم بكلمات محزنة تدلّ على دنو أجله، وقرب رحيله عن الدنيا.. فيقول: «سامحوني.. هاي آخر حلاقة رح احلقها بالحياة».. يتعاطف معه الزبائن، كما يتعاطف معه صاحب الصالون ولا يتقاضى منه أجراً..
18 سنة و«الختيار» يردد العبارة نفسها «هاي آخر حلاقة إلي بالحياة»! والحلاق يعطيه أولوية على الزبائن الآخرين، ولا يتقاضى منه أجراً.. إلى أن انتقل الحلاق قبل شهرين إلى الرفيق الأعلى، وبقي «الحجي»..
❊❊
لا أدري لماذا تذكرت هذا الرجل الطاعن في التمارض، كلما رأيت الرئيس الراحل حسني مبارك مسجى على سريره في سجن طرة، منذ سنة ونصف السنة تقريباً، وبعد انتهاء كل جلسة للمحاكمة يشاع فوراً تعرضه لوعكة صحية، فينتظر الإعلام تطوراً جديداً على صحة «الريّس».. ثم تغيب القصة شهراً أو شهرين، إلى أن تبدأ الجلسة التالية لمحاكمته.. وبعد ساعات يشاع من جديد تعرضه لأزمة قلبية، وهنا يعود الإعلام ينتظر تطوراً آخر على وضع مبارك.. ثم تغيب القصة.
بعد أن أخذ المؤبّد قبل أسبوعين، صارت تتكثف الشائعات، التي تتحدث عن سلامة الزعيم المخلوع من أزمات قلبية وغيبوبة، وهبوط حاد، وفقدان الوعي ونزاع الموت، وغيرها من قصص التهويل إلى أن وصلت الأمور إلى حد ترتيب مراسم الدفن.. ولأن الأعمار بيد الله، ربما يعيش الرجل 18 سنة أخرى، ويموت «حلاّقه» أو «خلافه»، كما حدث في القصة السابقة.
في السنوات الأخيرة، خرجت أمراض طارئة وموسمية، مثل الحمى القلاعية، وحمى البحر الأبيض المتوسط، والجمرة الخبيثة، كانت تظهر فجأة وتختفي فجأة.. أعتقد أن ما يعانيه الآن الرئيس المخلوع حسني مبارك يشبه إلى حد بعيد هذه الأمراض الموسمية، فهناك ما يسمى في طب السياسة «حمى» التنحّي، يسببه «فيروس» الندم، وعدم التلامس المباشر مع «السلطة».. هذا الفيروس كفيل بأن يبقي الزعيم العربي طريح الفراش مدى الحياة.. مادام بعيداً عن ظهر الشعب، وقوائم الكرسي الأربعة....
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه.