أبواب
الثقافة الديمقراطية أولاً
يزعم المطالبون بالديمقراطية على طريقة الربيع العربي، أن الديمقراطية لا تتحقق بين ليلة وضحاها، وأنه لابد من الانتظار، وأحياناً لابد من الدم، ولابد من وقت للنضوج، ويستشهدون بالثورة الفرنسية دائماً.
لكن أحداً من هؤلاء لا يشير من قريب أو من بعيد إلى ضرورة نشر الثقافة الديمقراطية، وتعميمها، لكي نصبح شعباً قابلاً لتقبل هذه القيمة وهذه الممارسة.
ولكي تنشر الثقافة الديمقراطية، عليك أولاً وقبل كل شيء، التحرر من الانتماءات العشائرية والقبلية والطائفية والمذهبية والجهوية، حيث لا يمكن لأحد أن يكون ديمقراطياً وهو عضو في رابطة عشائرية مثلاً. ولا يمكن لأحد أن يكون ديمقراطياً وهو يعتمد على شيخ العشيرة أو عدد أفراد العشيرة الذي يوفر له الوظيفة والمناصب العليا، بصرف النظر عن ثقافته وكفاءته.
والديمقراطية لا تتجلى أبداً في الذهاب إلى صناديق الاقتراع والانتخاب، فحتى لو لم تقم السلطة العسكرية أو العشائرية بالتزوير، فإن التزوير قائم بالضرورة، حيث يتم جمع العشيرة كلها برجالها وشبابها ونسائها ونقلهم لانتخاب ابن العشيرة، من دون أن يفكر أبناء العشيرة في ثقافة هذا المرشح، أو في مقدرته على القيام بواجبه، وهم يقومون باختياره ممثلاً لهم أولاً وأخيراً، وليس ممثلاً للشعب، أي أنه سيكون صوتهم الذي يعمل لتحقيق مطالبهم المعيشية، وربما لخلخلة التراتبية الاجتماعية أيضاً.
والثقافة الديمقراطية ليست كذلك أبداً، فهي تعلي أولاً من قيمة القانون، وتعلي في الوقت نفسه من قيمة المواطنة ومفهومها، بحيث يصبح الشعب كله مجموعة من المواطنين المتساوين في الحقوق والواجبات أمام القانون. وعند هذه النقطة، فإن أي نظرة عابرة إلى هذا الربيع العربي تنقض ما ذكرناه كله، فإذا كان المواطنون متساوين في المواطنة أمام القانون، فإن القسم الذي يؤيد مرشحاً ما؛ رئاسياً أو برلمانياً أو أي صنف آخر، لا يعادي القسم الآخر الذي يؤيد مرشحا منافسا كما يحدث في العالم العربي. هنا ينتقل الصراع، والدموي أحياناً، من المرشحيْن إلى المجاميع البشرية التي تناصر كلاً منهما، ويقوم كل طرف بانتهاك قيمة المواطنة في الطرف الآخر، فيتحول الصراع مذهبيا أو طائفيا أو إثنيا، لكنه لن يكون قوميا أو اجتماعيا على الإطلاق. وحين يبدو الصراع طبقيا أحيانا في مظهره، فإنه مظهر خدّاع ووهمي، كما كانت الحال في الانتخابات المصرية الأخيرة، فقد بدا أن الطبقات العليا تؤيد مرشحاً ما، بينما المسحوقة تؤيد مرشحاً آخر، وليت الأمر كان كذلك، لكنه كان صراعاً على النفوذ والسلطة، من دون أي اعتبار لجموع المواطنين في الجهتين، فالإخوان المسلمون لديهم استثمارات مالية ربما تكون أكبر مما لدى الحزب الوطني، وعليه يكون الانحياز إليهم هو انحياز عقائدي في بعض منه، وانتقامي وثأري في الجزء الآخر، ولكنه حتماً ليس انحيازاً مبدئياً، لأن الناس لا تملك من الثقافة الديمقراطية ما يؤهلها للاختيار بعد. ولدينا مثال نستعين به دائماً وهو المثال اللبناني، حيث يصطف المسحوقون السنة في مواجهة المسحوقين الشيعة، عوضاً عن اصطفاف الطرفين ضد الإقطاع والبورجوازية، بصرف النظر عن طائفة الإقطاع والبورجوازية ومذهبهما.
أما كيف ننتج ثقافة ديمقراطية، فهذه مهمة النخب الثقافية والسياسية العربية، التي أشك حتى اليوم في قدرتها على التحلل من الانتماءات العشائرية والطائفية والمذهبية، أي أن علينا انتظار نخب جديدة قادرة ومستعدة للقيام بهذا الدور الثقافي الرائد.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .