مزاح.. ورماح
غسيل دماغ
منذ بداية العطلة المدرسية وأنا أشاهد أولادي في الوضعية نفسها، الأول مستلقٍ عمودياً أمام التلفزيون، والثاني متمدد بشكل أفقي فوق رأس أخيه، ليشكلا معاً حرف «T» بـ«الإنجليزية».. الغريب أنه منذ أسبوعين تقريباً، لم أشاهد أحدهما قد غيّر مكانه، أو بدل «بيجامته»، أو قلب على «جنبه»، أو حتى دخل الحمام كأي كائن حي.
منذ الثامنة صباحاً، وقبل أن يغسلا وجهيهما يتحسسان على «الريموت»، وهما مغمضا العينين ليشاهدا قناة «سبيس تون».. ثم ينتقلان إلى «MBC3».. ثم الجزيرة أطفال (كراميش)، وغيرها.. لا يتركان مسلسلاً كرتونياً إلا ويصادرانه بحواسهما من «سبونغ بوب»، إلى «آندي»، إلى «آرمون هيرو»، و«تو فاس»، و«جومانجي»، وغيرها.. وما إن يأتي المساء حتى يكونا قد تحولا إلى كائنين كرتونيين بالكامل، بدءاً من الحركات ومن ثم اللغة وطريقة الإلقاء المدبلجة وكل شيء، فمثلاً إذا ما جهز العشاء يحضر أحدهما إلى غرفتي ليناديني بلغة عربية فصيحة وبمزيد من حركات الهبل: «(سيد سبونغ بوب)، تفضل السيد (سلطع برغر) قد حضّر لك العشاء»، وطبعاً المقصود بـ«سبونغ بوب»،حضرة جنابي، أما السيد «سلطع برغر»، فهي «أم العيال»، حتى طريقة المشي تغيرت فصارا يمشيان أمامي كما تمشي الرسوم المتحركة بساقين رخوتين، ورأس مائل، ومزيد من تعابير الوجه الكرتونية، الأمر لم يتوقف عند هذا الحد! فقد حولا كل محيطهما إلى كرتون، وأسقطا الشخصيات التي يشاهدانها على كل ما حولهما، فمثلاً يعتبران جدّتهما بمثابة «العجوز جنكل»، وعمهما الأكبر «بسيط»، والأوسط «شفيق»، وخالتهما «شمشون».
المشكلة أنهما إذا بقيا على هذه الحالة فترة أطول، فسيعتقدان أن العالم كله «سبيس تون»، وأن الوطن الذي نتكلم عنه ليس سوى قرية «السنافر». بصراحة حاولت جاهداً أن أمنعهما من مشاهدة هذه الشاشة القاتلة للتفكير والمهارة، وزجّهما في الحارات ليلعبا ويتربيا ويَضرِبا ويُضرَبا كما لعبنا وتربينا وضربنا وضُربنا، ثم اكتشفت سريعاً أنه حتى مفهوم الحارة، الذي نحتفظ به في ذاكرتنا بكل ما فيها من ألعاب طفولية وشغب ولهو، اختفى تماماً، الآن الحارات مفرغة إلا من السيارات المصطفة أو بعض المارين على عجل، تجنباً لحرارة الشمس اللاهبة، أما الأطفال روح الحي ونبضه، فجميعهم متمترسون خلف جدران الاسمنت وستائر العزل الثقيلة.
لا أدري كيف سيدافع هذا الجيل عن قضاياه الكبيرة، وهو لم يعاشر إلا «الرسوم المتحركة»، ولم يتسلّح إلا بالريموت كنترول.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه.