بوصلة روحي
ها أنا أجلس على هضبة عمري الستيني كأسد مثخن بالجراح، وأسأل نفسي بقسوة عن علاقتي بالأدب والكتابة. وعن القطاف الروحي والنفسي لهذه الرحلة الطويلة التي توّجتني كاتباً يحمل على ظهره الكتابي خمس مجموعات قصصية، وآلافاً من الكتابات الصحافية والزوايا.
إنه السؤال الذي يُعيدني إلى طفولتي التي ظلت مُجرّحة بالرؤى، والتي لم تكن تليق بالبهجة التي عادة ما تُجمل الطفولة، وتمنحها بهجتها المدهشة. تلك الرؤى التي كانت تتوجني مخلوقاً مختلفاً عن الآخرين، حيث لكل حادثة طعمها الكاريكاتوري الخاص، ذلك أن البيت الأول يكتظ بحضور الأب المثقل بتداعيات صلاة الفجر، وثيابه الكاكية المبشرة بالرزق الحلال، وإيقاعات صوت أمي وهي تدعو له بأن يبعد الله عنه أبناء الحرام!! وضجتنا الطفولية المنعتقة من هيبة حضور الأب والاستغراق في الضجة البيتية، وتلك المدرسة التي كانت تتوعدني كل صباح بالحضور المثابر، وأنا أعاني تلك الرائحة الصفية المتخشبة والمنبعثة من المقاعد التي ظلت ليلة كاملة بانتظار حضورنا، والمعاناة من تلاصق الأجساد الطرية، وتأملي الجارح لملامح طلاب صفي الابتدائي، ومحاولة تشكيل انطباعي الأول عنهم. وتلك الرائحة المنشاة التي كانت تفوح من ثياب مربي الفصل، تلك الرائحة التي كانت تحمل طعم الصفعة!!
هذا الاختلاف الطفولي كان يؤرقني، حين كان يجعلني أتستر عليه، وأنا أراقب عبارات كانت معلقة على جدران المدرسة، وكتبت على قواطع معدنية سوداء وبلون أبيض، وبخط الرقعة، عبارات حازمة مثل «لا تنس فلسطين» أو «حافظ على نظافة مدرستك».
والسؤال يُعيدني أيضاً إلى تلك الدهشة التي كان يفعلها فيّ الورق الأبيض، الذي حينما كنت أشاهده في رزم، يستثير فيّ رغبة تسويده بالحبر والكلمات والرسوم، وحتى فن الخط العربي.
نعم كان الورق الأبيض يستفزني على نحو غامض، لكنني حينما عرفت ان هناك مجلات وكتب سميكة ليست بالضرورة مدرسية، عرفت آنذاك أنه يمكن للورق الأبيض أن يحتمل كميات هائلة من شقاواتنا الجوانية، لا بل شقاوات العالم كلها. وهنا كان لابد من الرحيل الأول نحو الكتابة، وتأجيج أوارها بالقراءات، والبدء بتحمل الوجع الإنساني العميق الذي تتركه القراءات من تمثل معاناة أصحابها، ومن حماقات حبرية قد تقود الى الانتحار، أو حتى الجنون أحياناً.
أجلس على هضبة عمري الستيني، وأهمس لروحي بوحشة حقيقية: «كان بإمكانك أن تعفي نفسك من كل هذه التقرحات النفسية، وأن تنمو عادياً مثل الجميع بقامتك الطويلة هذه، وسمنتك التي كانت ستتوجك تاجراً ماهراً أو صاحب بناية، أو رجلاً يقود الأسواق من ياقتها. كان بإمكانك أن تفعل هذا. لكن بوصلة الروح يبدو هي التي تقودنا، وقد كانت ـ ولاتزال ـ بوصلة روحي الكتابة».
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .