بلاد العرب «أكفاني»
حتى على دفاتر النسخ، وكراريس الرسم، و«علب الهندسة»، كانت توضع في برواز مشع ومزخرف، هناك في وسط الغلاف وفوق خانة اسم الطالب واسم مدرسته وشعبته كانت تتربع «خريطة الوطن العربي».. لذا كنا كلما كتبنا على دفتر أو طويناه أو فتحنا حقيبتنا أو أغلقناها لابد أن نشاهد ذلك الجسم الصحراوي الممتد طولياً من الماء إلى الماء.
❊❊
في يومي الأول - عندما قادني أخي الأكبر إلى مدرسة محيي الدين بن عربي الابتدائية - كانت الخريطة ذات الدهان المقشور تستقبلنا أيضاً من البوابة إلى ساحة الاصطفاف، ثم وجدتها في الطابق الثاني بين صفوف «السوادس»، فصارت رغماً عنا واحدة من مفردات الدراسة وأبجدية التعليم، كلما سنح لنا الوقت نبحث عن وطننا المصلوب على الحائط بأصابعنا الصغيرة ونتسابق على اكتشافه.
❊❊
في حصص التاريخ كنا ننصت إلى خطب الأستاذ المشحونة بالوطنية والقومية العربية وضرورات الوحدة الملحّة، ونعجب جداً عندما يصر الرجل في كل حصة على أن الخطوط المتقطعة والمرسومة بين هذه الدول على الخريطة هي خطوط وهمية لا أصل لها، وأن اتفاقية «سايكس بيكو» نجحت في تقسيم الدول على الورق لكنها موحّدة في الواقع.
❊❊
هذه الأيام، أقلب دفاتر أبنائي فأكتشف أن خريطة الوطن العربي ذات البرواز المشعّ والمزخرف استبدلت بصور أبطال «الديجتال»، ولـ«ماوكلي فتى الأدغال»، وأن الرسوم اللامعة التي تغطي جدران المدارس هي رسوم «لبطوط» و«نقار الخشب»، والأخوين «توم وجيري». حتى حصة التاريخ في مدارسنا الحكومية تحوّلت إلى حصة «للنكت» أو في أحسن الأحوال حصة لأخذ «غفوة» جماعية للمعلم وتلاميذه.
ثم اكتشفنا بعد ذهاب العمر أن الخطوط الحمراء المتقطعة التي كانت تفصل بين الدول والتي ذبحنا الأستاذ «رجا» بنفيها وتتفيهها في وجداننا، ليست خطوطاً وهمية على الإطلاق، بل هي «أسوار شائكة» وجدران مرتفعة ونقاط حدود وتوتر وصراعات، وعلى عكس ما كان يقول تماماً، فإن جميع «بلاد العرب» مقسمة في الواقع وإن بدت متوحّدة على الورق.
❊❊
كلما فتحت التلفاز أو قلبت صفحات الجرائد، أحاول أن أغمض عيني وأصم أذني عن أخبار هذا الكائن الوجداني الذي سكننا طوال عمرنا، وكلما ضغطت على زرّ «الريموت» نزف دم طفل رضيع من بين أصابعي، أو تأوه معتقل على مسامعي.
بلاد العرب أوطاني؟ بلاد العرب «أكفاني»!
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه.