بحر التراجيديات وثقافة الحصار
كل ما كتبه الإغريق من تراجيديات مؤثرة كان مسرحه البحر الأبيض المتوسط، منذ أبحرت سفن الممالك اليونانية بقيادة إسبارطة نحو طروادة، وحاصرتها 10 سنوات متتالية، وقد أسفر الحصار الشهير عن اقتحام طروادة، وقتل أشجع رجالاتها، وسبي أجمل نسائها، وغنم أثمن ما فيها من نفائس.
ولكن، لم يكن يدور في خلد فرسان اليونان أنهم سوف يدفعون أثماناً باهظة كالتي دفعوها، مثل قتل آخيل في المعركة، وقتل آغاممنون إثر عودته على يد زوجته وعشيقها، وتيه أوديسيوس«عوليس» في البحر الأبيض المتوسط نفسه، قبل إعادته بعد سنوات من الآلام التي تعرض لها كل من زوجته بنلوبه وابنه تليماخوس.
لم يكن الإغريق يعرفون من قبل أنهم سوف يدفعون ذلك الثمن الباهظ، حيث غرّتهم قوتهم، وأسكرتهم عدتهم، وظنوا أن كل شيء سوف يسير على ما يرام، ولكن النتيجة النهائية كانت تفكك ممالك الإغريق، وانتهاء مجدهم.
لا نقول هذا من قبيل العزاء لأنفسنا، ونحن نشهد أبشع حصار بشري عبر التاريخ، وهو حصار غزة، ولكننا نقوله ونحن واثقون - كما كنا دائماً - بمعاقبة الشر والظلم، وهي ثقة ليست أسطورية تمنحها لنا آلهة الأولمب، ولكنها ثقة المظلوم بعدالة التاريخ.
والتاريخ - كما نعلم - يرتكب في العادة بعض الأخطاء في مسيرته، لكنه آجلاً أو عاجلاً يصحح تلك الأخطاء، فلم يكن تقسيم برلين مثلاً سوى خطأ تاريخي، سرعان ما قام التاريخ بتصحيحه، تماما كتقسيم فيتنام، وما شابه ذلك من شواهد لاتزال حية حتى اليوم.
فالذين قذفت بهم سفن المتوسط ذات يوم على شواطئ فلسطين، ليسوا أكثر من غزاة، ولنقل ذلك من دون خوف أو تحسس من تهمة سمجة تدعى «محاربة السامية»، فالسامية ليست امتيازاً لهؤلاء أصلاً، والسامية أيضاً لا تجيز محاصرة البشر وقتلهم وتشريدهم وتجريدهم من إنسانيتهم وحقوقهم التي منحها الله لهم.
نحن هنا نتحدث عن ثقافتين: ثقافة القتل والبطش والشر، وثقافة الحب والتآلف والمرحمة. وإذا كان التاريخ ارتكب خطأ ذات يوم حين سمح لهؤلاء الغزاة بالدخول إلى فلسطين، فإن هذا التاريخ سوف يصحح خطأه حتماً ذات يوم، وما علينا سوى مراجعة التوراة التي بين أيدينا، حيث يعترف هؤلاء بأن طغيانهم هو الذي تسبب في كل ما حدث لهم من سبي وقتل وتشريد أكثر من مرة.
لقد اعترف هؤلاء في التوراة التي بين أيدينا اليوم، أنهم مارسوا قتل الأطفال والنساء والشيوخ، وإحراق المدن والقرى فوق رؤوس أصحابها، ولكنهم اعترفوا أيضاً بأنهم لم يتمكنوا من مقاومة ثقافة الكنعانيين، ما سمح للملك سليمان بمصاهرتهم، والسماح لهؤلاء الغزاة بتقليد أعياد الكنعانيين والانخراط في طقوسها، لأنها قائمة على قيمة أساسية هي الخصب، ولكن من كان مسكونا بشهوة القتل والظلم، لن يستمر إلا قاتلاً وظالماً إلى أن يقوم التاريخ بتصحيح خطئه.
أما خطأ هؤلاء أو خطيئتهم التي لم يدركوها، فهي أنهم لا يعرفون تاريخ البحر الأبيض المتوسط، الذي وصل إليه سرجون الأكادي ذات يوم، وحفظه الفلسطينيون في قلوبهم على مر التاريخ، ولن يكون إلا أبيض نقياً من هذا العفن الذي نما في غفلة من التاريخ.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .