5 دقائق

منزلة الصدق في الأخلاق

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

يتنافس الناس في الفضائل، ويحرصون على اقتناصها؛ ليكون لمريدها حظ من سبق يتميز به عن غيره، ولا يختلف اثنان على أن الصدق أجل الفضائل الخُلقية، لما له من أثر في قلوب الناس، فيجعل صاحبه كالشامة بينهم، يعرفون له فضلا، وينزلونه أهلا، ويفرشون له سهلا، ولعمري إن إخوان الصدق من أنفس الذخائر، وأفضل العُدد؛ لأنهم سهماء النفوس وأولياء النوائب.

الصدق يدعو إليه عقلٌ موجب، وشرع مؤكد، فقد قال سبحانه: {يَا أَيهَا الذِينَ آمَنُوا اتقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصادِقِينَ}، أي كونوا معهم في المنهج والسلوك والنصرة والولاية، لأن صاحب الصدق يهديك، وصاحب الكذب يُرديك، فالصدق صفاء في الطوية، وإخلاص في النية، وسلوك يرضي رب البرية، وهو سبحانه أصدق القائلين: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلا}، فلذلك دعا عباده إليه، وندبهم أن يصحبوا الصادقين في أقوالهم وأفعالهم، ليكونوا لهم عدةً في ضرائهم، كما كانوا نصحاء في سرائهم، فلم يؤمروا بملازمة غيرهم من ذوي الأخلاق الفاضلة الأخرى، فضلا عن الأخلاق السيئة؛ لأن هذا الخلق يحمل على كل خلق سَنِي، وينهى عن كل خلق دني، ولذلك لم يُبعث نبي إلا مشهورا بالصدق، غير مجرب عليه فلتة لسان، فضلا عن كذبة مقصودة في الجَنان؛ لأن الناس لا يوالون غير الصادقين، ولا يقبلون إلا عليهم.

الصدق قوة في النفس؛ لأن عاقبته سعادة، ولا يعتري صاحبه حسرة ولا ندامة، ولذلك سمي الصدق صدقا؛ لأنه يدل على قوة في الشيء قولا وغيره، من قولهم شيء صدق، أي صلب. ورمح صدق أي قوي لا يكذب عند الحاجة.

لذلك كان ملازما للإيمان، فإن فارقه افترقا،أ فقد قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أيكون المؤمن جبانا ؟ فقال: «نعم»، فقيل له: أيكون المؤمن بخيلا؟ فقال: «نعم»، فقيل له: أيكون المؤمن كذابا؟ فقال: «لا»، أي لأنه ينافي الإيمان فهما ضدان لا يجتمعان ولا يرتفعان، لذلك أرشد صلى الله عليه وسلم إلى تحريه وإن ظُن أن فيه هلكة، فقال عليه الصلاة والسلام: «عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا»، وإذا كتب كذابا فقد هلك في الدنيا بعدم اعتباره بين أهلها، وفي الأخرى تحيق به لعنة الله تعالى ويكون من الخاسرين. فالصدق إذاً فضيلةٌ لا توازى به الفضائل الأخرى إلا كان في الذروة منها، ولا يقارن بغيره من صفات النقص لأنه ضدها، وكل الناس بل والحيوان لا يتعايشون على المودة والإخاء إلا به، فإذا فقدوه انتزعت الثقة بينهم، وعاشوا على توجس وخيفة.

تلك هي الحقيقة التي لا تغيب عن أحد، إلا أن واقعها قد يغيب كثيرا في دنيا اليوم التي تنكبت فيها الفضائل، وحل محلها كثير من الرذائل، فلابد من عودة إلى الجادة التي هي مُحبذة شرعا وعقلا.

كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر