أبواب
العابرون
كنا قبل أيام نتحدث في الثقافات الإنسانية عبر التاريخ، وطغت فكرة الثقافة «الهاجرية»، وهي ثقافة الأقوام المتنقلة وغير المستقرة.
وبالعودة إلى بعض النظريات التي تناولت مجيء اليهود إلى فلسطين، هنالك من اعتبرهم مجموعة من البدو الرحل، عرفوا بقبائل«العابيرو» الذين اعتاشوا على القتل وقطع الطرقات، لأنهم ليسوا جماعات زراعية أو حضرية. وتقول هذه النظرية إن هؤلاء استغلوا نزوح بعض الكنعانيين في مرحلة قحط أصابت أرضهم وساحلهم، فجاؤوا واستقروا مكانهم، وتمكنوا من السيطرة على جزء من ثقافتهم أيضاً، ومن اسمهم أطلق اسم«العبرانيين» على اليهود في ما بعد.
ربما يفسر لنا هذا ما يقوم به الكيان الصهيوني من مواصلة سرقة الثقافة الشعبية الفلسطينية من أغانٍ تراثية وملابس ومأكل ورقصات وما إلى ذلك، وتسويقها في العالم بصفتها تراثاً يهودياً. ما يعزز هذه النظرية، هو أن اليهود، سواء«قبائل العابيرو» أو حتى أولئك الذين يقال إنهم قدموا من مصر، هو أنهم جماعات هاجرية. فحتى في التوراة الموجودة بيننا اليوم، ورد أن آباءهم وأجدادهم رحلوا من العراق إلى مناطق حوران، وإلى جنوب شرق تركيا قبل أن يأتوا إلى فلسطين، ومنها إلى مصر قبل أن يقودهم موسى إلى الأردن، ويعبر بهم «يوشع بن نون» إلى فلسطين، ثم يأتي نبوخذ نصر بعد سبعين سنة ليسبيهم عقوداً عدة، قبل أن يعيدهم الفرس، أو من تبقى منهم إلى فلسطين.
هذه الرحلات تؤكد أن هؤلاء هم جماعات هاجرية بالفعل، والجماعات الهاجرية لا تنتج ثقافة إنسانية سامية، لأنها لم تستقر كالجماعات الأخرى، أي لم تأمن شرور ما تقوم به، فهي وإن امتهنت قطع الطرق والقتل والسلب والنهب، إلا أنه كان عليها مواجهة عواقب هذه السلوكات، ما يعني أنها غير مؤهلة لإنتاج ثقافة إنسانية قوامها القيم الإنسانية النبيلة. وليس غريبا أن يكون إلههم في التوراة الحالية، هو«رب الجنود»، وأن يحض على القتل والسلب والنهب، وتحليل كل ما هو غير يهودي حتى لو كان مخالفاً شريعة الله.
ولكي تكتمل الصورة أكثر، فإننا نلاحظ أن الجماعات والأقوام التي عرفت الاستقرار، هي التي أنتجت ثقافات إنسانية عظيمة، منذ السومريين والبابليين والكلدانيين والكنعانيين والفراعنة والأوغاريتيين والإغريق. ونلحظ أن هذه الجماعات والأقوام لا يعرف عنها أي تعصب ديني مثلاً، وهي جماعات سكنت على ضفاف الأنهار والبحار، وهو الأمر الذي لم يُتح لليهود كجماعة منحت نفسها في ما بعد ديناً جديداً، قيل إنه كان استنساخاً عن ديانة الفرعون«أخناتون»، ونقول إنه مزيج من هذا ومن الديانة الكنعانية والبابلية والسومرية. وليس غريباً أن تكون قصة الخلق التوراتية موجودة عند السومريين من قبل، وأن تكون قصة الطوفان موجودة عند البابليين، إضافة إلى نشيد الإنشاد الذي ينسجم وطقوس الخصب الكنعانية أكثر من انسجامه مع ثقافة القتل وسفك الدماء التي تشبع اليهود بها عبر التاريخ.
خلاصة القول، هي أن هذه الجماعات لا تحمل مخزوناً جمعياً يحض على إنتاج ثقافة إنسانية رفيعة، ولم يكن واحد مثل الموسيقار الشهير فاغنر مولوداً ليكره اليهود، ولكن قراءته تاريخهم، وتحليله لغتهم الميتافيزيقية، كونها مرتبطة برب الجنود، جعلته يكتب أن اليهود جماعة غير قادرة على الإبداع في الآداب والفنون، مقدار قدرتها على القتل والاغتصاب والنهب والسرقة، وهذا كلام قيل قبل اغتصاب فلسطين، فماذا كان سيكتب اليوم؟
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .