أبواب
في حضرة يوسف إدريس
في زمن تخلخل بوصلة القنوات الإبداعية من شعر ورواية وقصة قصيرة، فإنك تشعر بالانتعاش الحسي حينما يطل عليك أي واحد من الرواد الذين أسسوا وثبتوا أركان هذه القناة الإبداعية، أو تلك.
وبالمناسبة «الرواد» يختلفون عن هذا الجيل الإبداعي «الخداج» السائد في غير عاصمة عربية، من حيث قدرتهم على التشبث بقنواتهم الإبداعية، والتفاخر بها ودرء كل من يحاول أن يُقزم هذا النوع من الإبداع أو ذاك.
أنا هنا أتحدث عن سيد القصة القصيرة المصرية والعربية الراحل يوسف إدريس، الذي شاهدته قبل أيام على فضائية مصرية في مقابلة قديمة ومؤرشفة مع المذيع المصري المخضرم فاروق شوشة.
كان هذه المرة يوسف إدريس كأنه نهض من قبره وجلس قبالتي، بدأت أسمع إيقاع صوته الذي يطفح بالعافية والثقة، وقد أعادني إدريس الى زمن كان فيه للقصة القصيرة رموزها الذين يحملون كبرياء القص وسحره بثقة نادرة، وذلك من خلال الأسئلة العميقة التي كانت تطرح عليه، ومن خلال الأجوبة التي كان يختارها بعناية.
وكان الذي يجيب عن الأسئلة يوسف إدريس الذي أعادني حضوره أمامي إلى محاضرة كان قد ألقاها على جمهور «أبوظبي» في مطلع الثمانينات، حيث استضافه آنذاك النادي السياحي، وقد كان يجلس على المنصة كنسر، متحدثاً باسترسال وبعمق وعن تجربته الكتابية حيث استمرت محاضرة إدريس ما يزيد على ساعتين.
هذا هو يوسف إدريس الذي يتحدث امامي بأناقته المعهودة وصلابته الفكرية، هذا صاحب قصة «بيت من لحم» وقصة «مسحوق الهمس» و«النداهة»، هذا هو صاحب رواية «البيضاء» و«الحرام» وصاحب مسرحية «الفرافير».
وفي المقابلة تحدث يوسف إدريس عن انواع القص، مشيراً الى القصة الصحافية التي تحاول أن تشبه القصة وتستدرج الخيال الاستهلاكي للقارئ، وعن قصة «الضغينة»، التي تعتمد على الأخبار الفضائحية عن الآخرين، وفي النهاية شدد على أن هناك القصة القصيرة «القصة»، التي يُنتجها المُبدع الحقيقي، والتي لم يخلق قبلها ولا يمكن أن تتحق الا عندما تكتب، بمعنى انها القصة التي تظل تحرس المضارع الإنساني في أي وقت وفي أي زمان، وهي القصة القصيرة الحقيقية.
أعترف بأني كقاص حينما رأيت تلك المقابلة ردت إليّ عافية القص، في زمن صاح فيه أحد النقاد في أحد المؤتمرات النقدية في عمان، قائلاً «على القصة القصيرة أن تلتحق بالرواية».
يوسف إدريس «تشيخوف» العرب وحارس القصة القصيرة شكراً لأنك أعدتني إليّ!
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .