مزاح.. ورماح

الغربة.. وأنت!

أحمد حسن الزعبي

عند الغروب، تنهي الشمس «ورديتها»، فتخلع وهجها وتغيب، يعود الآباء إلى بيوتهم محملين بالخبز والقطايف والتعب اليومي، تضاء البيوت، تفرد الضحكات، تتحاور الملاعق خلف الشرفات، تفتح النوافذ الرئيسة لاستقبال الأذان القادم من بعيد.. وينتهي اليوم بسلام.

عندما تتصاعد أبخرة «الحميمية» فوق البيوت الأفقية والشقق المرتفعة،

أفكر بالغرباء.. أفكّر في الماشين على صراط غربتهم، المحرومين من ضجيج أطفالهم حول المائدة.. واعتناء زوجاتهم لحظة الإفطار، ودعاء أمهاتهم بالعمر الطويل والرزق الحلال.

أتعاطف مع عامل مقيم يمرّ كل يوم من أمام بيتي.. يحمل بين يديه زجاجة ماء ورغيف خبز ومعلّبات جاهزة.. يمضي وحيداً إلى غرفته في طابق «التسوية» لبيت قريب، يغلق عليه بابه.. يشعل ضوء غرفته الأصفر، ويفطر وحيداً على غربته المعلّبة.

**

كنت أحدهم ذات يوم، أدخل إلى المطعم اللبناني في دبي، أجلس إلى طاولة يشاركني فيها ثلاثة غرباء آخرون، تدور العيون حولي من دون أن أحظى بترحيب أو تحية.. أحضر صحني وملعقتي.. وأطوف بنظرة استكشافية سريعة، فأتأكد أن جميعهم قد أتوا لهدف واحد.. الشعور بالحياة، ليس إلا.. وما أن يحين الأذان، حتى يضع كل منا عينه في طبقه.. لا يسمع في قاعة المطعم سوى صوت طرق الملاعق في الصحون، ومضغ «الجرجير»، وأصوات متناثرة هنا وهناك ليست إلاّ طلبات زائدة: «رأس بصل، قرن فلفل، إبريق زيت».. لبعض الزبائن غير المواظبين من سائقي الشاحنات والمقيمين الجدد والقادمين «بتأشيرات الزيارة».

صحيح أن فيروز كانت تغنّي في المطعم للغرباء من مسجّل صغير، مرفوع على رف فوق «الكاشير».. لكنني لم أكن أسمع سوى صوت أمي.. كان يوسف «موظف الصالة» صديقي، يهتم بي أكثر من غيري فأنا زبونه اليومي، لذا كان يختار لي طاولة صغيرة قرب النافذة، وغالباً ما كان يحضر إليها غرباء لطفاء لا يخرجون أصواتاً من أفواههم أثناء الأكل، ولا يستخدمون العنف المفرط مع قطعة الدجاج الوحيدة التي تترأس الطبق.. وفوق كل ذلك، كان يكرمني برغيفَيْ خبز طازجين كان يخبزهما «عبدو» الهندي، وبعد أن ينسحب الجالسون من على طاولاتهم، يهرّب لي يوسف، بعيداً عن عيني المعلم، إبريق شاي بالنعناع، لأسأله عن حبيبته القاطنة في جبل العرب، وهو بدوره كان يسألني عن غربتي.

تتنزه العائلات في الشوارع، تتجول في المراكز التجارية والحدائق والشواطئ، وكنت أمضي بين الأزقة إلى سكني مرتوياً بوحدتي، متخماً بغربة نضجت على نار العمر، ليصادفني الحاج «ما شا الله الإيراني» أبومجيد.. مرحباً بعربية مكسّرة «هيّا الله باش مُهاندييييس».. من أين أتى بلقب الهندسة لا أعرف! لكني كنت أرد عليه التحية بأقصر منها: أهلين حجّي...

ahmedalzoubi@hotmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه.

تويتر