ما بعد رمضان
ودعْنا رمضان بأسف على بركة أيامه ولياليه؛ رمضان الصيام الذي هو من أجلّ القُربات، ورمضان القيام الذي هو من أفضل الطاعات، ورمضان القرآن الكريم، ورمضان التنافس في الطاعات، ورمضان الصدقات والزكوات، ورمضان الصلات، ورمضان التزكية للنفس والروح، ورمضان تصفيد الشياطين والمَرَدة.
هكذا يقول كثير من الناس إننا ودعنا رمضان، وهم بذلك يقررون توديع هذه المعاني العظيمة، والعبادات الشريفة، والأعمال الزاكية المُنيفة. وليتَهم يعلمون أن هذه الأمور لا تودع، بل هي جواهر العبادات والقُرُبات، شرعت في شهر رمضان وفي سائر شهور العام وأيامه ولياليه.
فالصيام الذي كان فريضة ليكون أجل مهذب للنفس فترقيه إلى مراتب المتقين، لم يقف عند حدود الفريضة الرمضانية، بل هو في شوال وفي كل شهر وفي كل أسبوع وفي السنة كلها إن لم يكن معه وصال، وهو أيضا كفاراتٌ لذنوبٍ متعددة لا يهذب نفس صاحبها إلا الصوم الذي هو لله وهو يجزي به، والذي يضيّق مجاري الشيطان، والذي هو سر بين العبد وربه، يجازي العبد عليه بنفسه، والذي هو صبر على الشهوات، وتدريب على ترك المنكرات؛ ليعود المرء صالحا نافعا.
وكذلكم القربات الأخرى؛ فالتهجد والقرآن والصدقات والزكوات والبر والصلة وسلامة القلب وصفاء الروح وترك منكر القول والفعل..أ الذي كان سائدا في رمضان، هي غير قاصرة عليه، فهل يودعها الناس لكونهم قد ودعوا شهر رمضان؟!
ذلك إذاً قصرٌ للعبادة من غير قاصر، وضياع للعمر من غير طائل، وليس ذلك شأن العقلاء الذين يحرصون على أن يكون صيامهم لله، ونسكهم لله، وتعبدهم لله، واستقامتهم لله، وليس للشهر الكريم، فمن يتخرج في شهر التقوى ثم لا يظل متقيا لم يكن صيامه نافعا، وكان تخرجه في مدرسة التقوى تخرّج الفاشلين، فإن الناجح هو الذي يظل وفيا لمدرسته وسلوكه الذي تربى عليه؛ لتكون مدرسته مصدر فخر واعتزاز له.
من كان وفيا لرمضان الذي عاش فيه 720 ساعة عبادة، كان فيها صائما قائما عاملا متقيا، لا يودع هذه الساعات الكثيرة النفيسة من عمره وشبابه أو شيبته بالرجوع القهقرى وأيام الطيش والصبا، فيكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، ذلك لا يكون من الذين عزّت عليهم نفوسهم، واعتزوا بطاعة ربهم، وشعروا بنشوة الطاعة ولذة العبادة، فإننا نعلم أن أيام السعادة لا تُنسى، بل يظل الحريص عليها يتلمس وجودها وزمانها ومكانها، عله أن يظفر بشيء منها، إلا أنها قد لا تأتي برغبته وشهوته، لكن الأنس بالله تعالى والرفعة بين يديه متاحان لكل من أحب هذا الفضل والفخر، فأين ومتى وكيف طلبها وجدها، فقد يسرها الله تعالى له بفتح أبوابه لعباده من غير حجاب ولا بواب، ولا وساطة ولا محسوبية، إلا أن يكون تعلقا بالمحبوبين لرب العالمين، فهي الوساطة المحببة لرب العالمين.
شهر رمضان حاضر بأثره الكريم، وتربيته الفاضلة، وعبادته الراقية، وأجره المكتسب، فلا يضيع بما يحبطه؛ من معاص وغفلة وإعراض، فمن عزّ عليه فراق رسمه، فإنه لم يفارق هديه ونفعه، ولكن الهدى هدى الله
رب إن الهدى هداك تهدي به من تشاء..
وإذا حلت الهداية قلبأ نشطت للعبادة الأعضاء.
كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي
لقراءة مقالات سابقة للكاتبة يرجى النقر على اسمها .