من كتف إلى أخرى

هل أصبح مشروع التحرر العربي بفروعه كلها من مخلفات الزمن البائد؟ هكذا يقول بعض المثقفين العرب، وعلى رأسهم المثقف اليساري «سابقاً» حازم صاغية. ومن هذه الفروع مثلاً مواجهة الإمبريالية، ويبدو أن مثقفينا بلغ بهم الاستخفاف بالقارئ درجات قصوى، فقول مثل هذا ينطوي على إنكار الإمبرياليات الغربية إنكاراً مطلقاً، ما يعني حكماً إنكار الثقافات الإمبريالية التي أنجبت لنا العولمة الثقافية.

ينسى هؤلاء المثقفون، أو يتناسون - وهو الأرجح - أن الثقافة الإمبريالية مرتبطة بالعقل الغربي وماهيته، وطالما كان هذا العقل هو المنتج للثقافة، فإنه لا يستطيع إلا أن ينتج ثقافة إمبريالية بالضرورة، ولعلنا أتينا في مقال سابق على رواية جوزيف كونراد «قلب الظلام» التي يعتبرها إدوارد سعيد مثالاً صارخاً على ثقافة العقل الغربي الإمبريالية والاستعمارية والاستعلائية. كل ما في الأمر أن علينا فقط أن نستبدل النفط بالعاج، ونستبدل إفريقيا بالعالم العربي، لكي نكتشف أن هذا العقل لايزال هو العقل الذي أباح قتل 100 مليون هندي أحمر واغتصاب بلاد كاملة، وهي الثقافة التي مهدت لنشوء الفكرة الصهيونية المتمثلة في إبادة الشعب الفلسطيني واغتصاب أرضه.

ينظر هؤلاء المثقفون لليبرالية الجديدة تحت شعار الحرية والديمقراطية، ويغفلون عن نشأة الليبرالية الجديدة أو يقفزون عنها وعن أهدافها الحقيقية، رغم أن الغرب لا يفعل ذلك، فهم لا يقولون مثلاً إن ريغان وتاتشر هما اللذان تبنيا إحياء الليبرالية بعد دفنها مع الكساد الكبير ونشوب الحرب الكونية الثانية، ولا يقولون لنا لماذا حدث هذا الإحياء أو إعادة البعث هذه، بينما يعترف الغرب نفسه بأن هذه الثقافة هي وليدة حاجة إمبريالية مطلقة، تمثلت في التهديد الذي شعر به الغرب إثر قطع إمدادات النفط عنه في حرب تشرين عام .1973

هذه الثقافة ترمي إلى إحكام سيطرة الإمبرياليات الغربية على مصادر الطاقة في العالم العربي، سواء كان ذلك بإثارة حروب ونزاعات إقليمية، أو حتى بالاحتلال العسكري المباشر، كما حدث للعراق. ومن ينكر الثقافة الإمبريالية يريد أن يكون ملكياً أكثر من الملك نفسه، فلم يحدث أن ارتبطت هذه الثقافة يوماً بمشروع التحرر الوطني العربي، بمعنى أنها لم تكن رداً على هذا المشروع، ولم تكن رداً على الأيديولوجيا الماركسية، رغم أن الشيوعية كانت على رأس قائمة أعداء هذه الثقافة، التي استخدمت في الحرب الباردة كل ما يمكن الوصول إليه، من منابر للنشر ومجلات وصحف وإذاعات وتجمعات ثقافية، في مواجهة خطر المد الشيوعي، لكن القول بانتماء التحرر العربي إلى مرحلة زمنية بائدة، بما ينطوي عليه المشروع من مواجهة الإمبريالية، هو قول لا ينطوي على مغالطة فحسب، بل يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، وهو الاستسلام للثقافة الإمبريالية استسلاماً قدرياً، وهنا يصبح الحديث الأكثر جدوى بالضرورة هو كيفية الاستفادة من هذه الثقافة، واستبدال القيم الإنسانية الرفيعة والنبيلة بمفاهيم النزعة الفردية والتحرر والوظيفة الاجتماعية وما إلى ذلك مما جاء في أفكار علماء الاجتماع الذين شكلوا نواة الثقافة الإمبريالية، وعلى رأسهم «ماكس فيبر».

لا لم يصبح مشروع التحرر الوطني العربي مشروعاً بائداً، ولا ينتمي للغة خشبية بائدة إلا عند من ينقلون البندقية من كتف إلى أخرى، بحسب الوظيفة الموكلة إليهم ليس إلا.

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

الأكثر مشاركة