أبواب
فساد الربيع العربي!
كنّا صغاراً، وكان الربيع الممتد في السهول الذاهبة من سهول حوارن حتى حفرة الانهدام في الشمال الأردني يبدو مثل أنثى منتعشة بهذا الاغتسال الذي أحدثه فصل المطر بشهوره الكانونية الطويلة، وكان أكثر ما يشدنا ونحن نتعثر بالأعشاب، هي تلك الحجارة الصخرية البيضاء الناصعة البياض، بنضارة الاغتسال الشتوي، بحيث كانت تبدو تلك الحجارة كأنها استحمت للتو، وهي تعطينا تلك الالتماعة التي تمنحها إياها الشمس الربيعية الساطعة، وكانت تلك الالتماعة الحجرية تدفعنا وعلى نحو غامض لتحسس تلك الالتماعة الحجرية بأيدينا الصغيرة، لكن ما كان يُشعرنا بالذعر وبالجفلة الروحية، هو حينما تأخذنا الحماقة إلى قلب الحجر، حيث تكون المفاجأة المقززة التي كانت تفسد المشهد الربيعي والسهلي، ذلك أننا كنا نجد تحت الحجر الآلاف المؤلفة من الديدان والحشرات التي يبعث مشهدها على الرعب، وعندها كنّا نفقد جمالية المشهد ويفسد المشهد الربيعي تماماً!
إن ربيعنا الطفولي هذا هو الربيع إذن الذي لا يختلف على الاطلاق عن ربيع الشعوب العربية الذي انبثق كمارد جماهيري في أكثر من عاصمة عربية، حيث فك اللجام القهري عن الأغلبية الصامتة، ذاك اللجام الذي جعل الحاكم الديكتاتور يبدو كأنه قدر أبدي يربض وبشكل تاريخي على صدر شعبه.
وفي دهشة الفرح بالنطق والبوح وتمزيق صورة الديكتاتور وتفتيت هيبته التي كادت أن تكون مقدسة، وتحرك الجماهير العفوي وهي تصيح بإيقاع واحد «الشعب يريد إسقاط النظام»، واهتزاز ميادين بعض العواصم بأصوات الجماهير التي بدت كأنها تنطق لأول مرة، وسط كل هذا حدث زلزال الربيع العربي.
وحينما دخلت الجماهير التي استطاعت أن تضع زعاماتها الظالمة في حاوية التاريخ، في تفاصيل الخراب الذي أحدثته مثل هذه الديكتاتوريات، من حيث الفساد ونهب ثروات الوطن وتحويلها الى أرقام فلكية في بنوك كافرة، كان على هذه الجماهير أن تبدأ من جديد في تأسيس الدولة، ولكن أية دولة هذه التي عليك وبعد مرور ما يزيد على نصف قرن وهي غارقة في القمع والهبل والتجهيل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي أن تعيد تعميرها من جديد!
إن الخمج الذي خلفته الأنظمة الديكتاتورية في بنية الدولة وفي فساده المستشري، واكتشفته بعض الشعوب العربية، لا يختلف على الاطلاق عن تلك الديدان والحشرات التي كانت تباغت فرحنا الطفولي في ربيع سهل حوران ذات طفولة.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .