5 دقائق
عفواً رسول الله
لم يزل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يلاقي الأذى وهو بالرفيق الأعلى، كما كان في الحياة الدنيا، وهو الذي كانت بعثته رحمة، ورسالته نعمة، ودعوته رأفة، بل هو الذي خُتم به النبيون، وهو الشاهد عليهم، والشاهد لهم، وهو الذي كانت رحمته عامة، وشريعته متجددة، وهو الذي أخرج البشرية من ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومن الوثنية إلى الحنيفية، ذلكم هو رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الذي اصطفاه الله بالرسالة الخاتمة العامة.
فما لهؤلاء القوم يتنكرون لفضله، ويقولون فيه ما هو جارٍ على طباعهم، من نقائص البشر، ومناهج الغجر، يظنون أنهم نائلون منه نيلا ومن أمته سبيلاً، وما علموا أنهم لا يتحدثون إلا عن أنفسهم، فكل إناءٍ بالذي فيه ينضح.
رسول الله سيد الأولين والآخرين، شاء الشانئون أم أبوا، لم تعرف البشرية رجلاً أتقى لله، ولا أنقى في نفسه، ولا أعظم في خلقه، ولا أعف في طبعه، ولا أكرم في عطائه، ولا أرأف بالبشرية والكائنات الحية، ولا أزهد في الدنيا، ولا أحلم عند الغضب، ولا أعلم في أمور الدنيا، ولا أعرف بالأخرى منه، فهو الذي أدّبه ربه فأحسن تأديبه، وجده يتيماً فآواه، وضالاً لا يعرف ديناً فهداه، وعائلاً لا يملك شيئاً فأغناه، شرح صدره لتلقي وحيه الثقيل، ووضع وزره فلم يعرف شيئاً مما لا يرضي مولاه أو يقدح في هداه، فكان على الصراط المستقيم، والمنهج القويم الذي لا عوج فيه ولا أمتى. رسول الله يتكلم عنه سفهاء اليوم بما لم يتكلم عنه سفهاء الأمس، فقد كانوا أعف لساناً، وأكرم أخلاقاً؛ لأنهم بقوا على إنسانيتهم، فكانوا يكذّبونه وهم أعرف الناس بصدقه، ويحاربونه وهم يعلمون أنه منصور من ربه، ويكفرون به وهم يعلمون صدق دعوته، إلا أنهم لم يجدوا منه ما يخدش له خُلقاً في عفة أو مروءة أو زهادة، أو غضباً لدنيا، أو انتقاماً لنفسه؛ لأنهم يعرفون القيم ويعلمون أنه أصل فيها، ولو وجدوا صغيرة من هفوة أو زلة لكفتهم عناء محاربته، وكانت سداً منيعاً عن الإيمان به لدى العرب والعجم.
أترى أوغاد اليوم من عباد الشياطين والأهواء والنفوس الأمارة بالسوء سيجدون فيه ما لم يجده من عايشه وكان شديد التربص له؟ كلا إن الكمال البشري والعظمة الخلقية التي تحلى بها ذلك النبي العربي الهاشمي، الذي اصطنعه الله على عينه، وأنزل عليه أشرف كتبه، وبعثه في حرمه، وعند بيته العظيم، الذي بناه أبواه إبراهيم وإسماعيل، فكان واقع دعوته، وبشارة أخيه عيسى ابن مريم، فهل دعا إبراهيم إلا بنبي يزكي البشرية ويعلمها الكتاب والحكمة؟ وهل بشر عيسى إلا بنبي خرج معه من مشكاة واحدة؟ أيعرف هؤلاء هذه المعاني التي أتى بها النبيون من قبله؟ كلا إنهم همج سمج لا يعرفون إلا نزوات أنفسهم، وشهوات فروجهم وبطونهم، ويظنون أنهم نائلون من مقام النبي العظيم، وكذبوا فقد كفاه الله المستهزئين، وبتر أعداءه السابقين واللاحقين.
نعم منهم من يريد أن ينال شهرة بالتطاول على مقام هذا النبي العظيم، والحقيقة أنهم ينالون تشهيراً بأنفسهم، فتلعنهم البشرية ابتداء من عقلاء قومهم، فضلاً عن عامة غيرهم، وكان الأجدر بهم أن يشتهروا بالقيم، ويبادروا إلى القمم، فذلك أولى بهم لو كانوا يعقلون.
كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء بدبي
لقراءة مقالات سابقة للكاتبة يرجى النقر على اسمها .