انتصار في قصيدة
ثمة كتابة يمكن وصفها بالكتابة البوليسية، لا أقصد الروايات البوليسية الممتعة في حبكتها مثل روايات أجاثا كريستي، ولا أقصد تلك الكتابات التي يجبر المخبرون أصحابها على اختيار موضوعاتهم وأفكارهم وتحديد توجهاتهم، أقصد كتابة أخرى طالعة من الذات، أعني الكتابة التي يفتش الكاتب فيها عن أفكار المتلقي ويأخذها ليعيد صياغتها في قالب أدبي ما، ثم يقدمها للمتلقي نفسه الذي سيجد فيها ذاته وأفكاره ولا شيء آخر.
هذا النوع من الكتابة يحضر بشدة في كثير من الكتابات العربية، خصوصاً عند جمهرة الكتاب الذين يبحثون عن شهرة وجماهيرية ما بأي ثمن، وهذه الكتابة لا تقدم إلا أفكاراً نمطية بالطبع، ولا تخرج عن الثقافة السائدة قيد أنملة كما يقال، ولا نجد فيها أي ملمح من ملامح المغامرة الإبداعية، ولا نتمكن من خلالها من توسيع زاوية الرؤية لأي مفردة من مفردات الحياة، هي كتابة فقيرة حتماً رغم أنها تعزف على وتر الجمهور المتعطش لمن يخبره أنه على صواب في رؤيته وأفكاره ومواقفه.
هذه الكتابة لا تحتاج من المتلقي إلى جهد للقبول أو الرفض، لأن الموقف منها موجود مسبقاً، وعلى سبيل المثال، فمن يكتب قصيدة يمجد فيها «الربيع العربي»، سوف يصطدم بقارئين مختلفين ومتناقضين: الأول سيهلل ويكبر ويعتبر القصيدة فتحا شعريا وفنيا عظيما، فقط لأنها أكدت له صواب موقفه وتوجهه ورؤيته، والثاني سيرفضها منذ اللحظة الأولى من دون تفكير أيضاً لأنها خالفت رؤيته وموقفه وقراءته للواقع السائد.
كتابة كهذه لا تفتح للقارئ باباً يسمح باستخدام العقل، ذاك لأنها كتابة مغلقة على الموقف والرؤية والفكرة والمفهوم والقيمة، ولا تترك هامشاً ولو ضئيلاً للقارئ الذي من المفروض أن يشارك في الكتابة كما يقول رولان بارت، ألم يقل إن العمل الأدبي لا ينتهي بانتهاء الكاتب منه، بل بانتهاء القارئ منه؟
ولأن الأفكار هي أفكار المتلقي، والمواقف هي مواقف المتلقي، أي أن كل ما في الكتابة نمطي وسائد ومعروف موضوعياً، فإنك حتماً وبالضرورة لن تعثر على ما يمكن تسميته بتحطيم الأشكال النمطية في الكتابة، أي أن البنية الفنية سوف تظل نمطية وتقليدية بالضرورة، لأنها هي وحدها القادرة على حمل أفكار ومفاهيم ورؤى نمطية، لن تعثر على جرأة بودلير أو رامبو في هدم البنية الفنية السائدة، الهدم الذي يشكل أولى خطوات البناء الحديث والمتجدد، لن تجد ذلك إلا في كتابة متفلتة من سطوة الثقافة السائدة، ومن هيمنة أفكار المتلقي، هذا إذا كنت كاتباً لا يبحث عن جماهيرية بأي ثمن.
ليست الكتابة البوليسية هذه جديدة علينا، فقد بدأت مع الشعر العربي الجاهلي واستمرت حتى اليوم في أشكال وصيغ عدة، تختلف باختلاف الثقافة السائدة، والتغيرات الاجتماعية والسياسية التي تصيب المجتمعات العربية. وهي في النهاية كتابة شعاراتية ترضي القارئ والمستمع، تماماً مثل أدب عبور النهر في السبعينات وأدب البطولات الذي يدغدغ مشاعر القراء البسطاء، الباحثين عن انتصار ولو في القصيدة.
هل يمكن القول إنه أدب المهزومين؟ ربما.. أدب التعويض؟ ربما.. أدب رغائبي؟ ربما.. الفكرة كلها تحتاج منا إلى وقفة متأنية!
لقراءة مقالات سابقة للكاتبة يرجى النقر على اسمها .