شاهدٌ على «الحصر»
بعد أن فقد الأمل في تحقيق حلمه المزمن؛ أقصد أن يجلس على كرسي منفرد أمام الزميل أحمد منصور في برنامجه «شاهد على العصر»، ثم يبدأ ببوح ذكرياته بتسلسل وهدوء تحت الضوء الخافت ولقطات «الكلوز» القريبة من ملامح وجهه، بينما يبقى يستعرض أحداثاً لا يعلم مدى صحّتها إلا الواحد الأحد، بدأ البحث عن شخص آخر يسمعه ولا يقاطعه أبداً، فكنت أنا الضحية..
اتصل بي قبل أسبوعين رجل كهل ـ يقول إنه طاعن في السياسة ـ مع أني أول مرة أسمع اسمه، وطلب منّي أن أحضر إلى مكتبه للتباحث في أمور البلد والأمّة حسب تعبيره.. وصلت في الموعد؛ سلم عليّ بحرارة، ثم نادى بصوت مرتجف على «الفرّاش» ليخيّرني: ماذا تشرب: شاي.. قهوة.. عصير.. زهورات؟ فاخترت عصير برتقال، أشار إلى الفتى بأن يحضر عصيراً.. اعتذر الأخير بأنه لا يوجد عصير في مطبخ السياسي.. ثم قال مضيفي للفراش: هات قهوة! فرفع الفرّاش أكتافه بما يفيد عدم وجود القهوة.. ثم لجأ إلى الشاي مشروباً شرعياً ووحيداً للجلسة، فقال له الشاب: إنه حتى «الشاي» غير متوافر.. فأمره بلهجة قاسية بأن يحضر شاياً وعصيراً وقهوة من أقرب «سوبر ماركت» بسرعة، فانصرف الفتى واستأنف السياسي المتقاعد الكلام عن نفسه..
كان يملك صوتاً هادئاً، ونبرة بطيئة تثير النعاس وتبعث على التثاؤب المستمر،لذا كنت أستغل فتح فمي للتعبير عن الاندهاش الكاذب ثم أخطف «تثاؤباً» صغيراً وسريعاً من دون أن يشعر، وأحياناً كنت أُشعره بالتأهب والوقوف تجاوباً مع كلامه فقط لأعدل من وضعية «البنطلون» بعد أن تعرّقت ركبتاي وأماكن أخرى.. المهم سرد لي الرجل قصة حياته بتفاصيلها المملة، وكيف بدأ متمرّداً على العائلة في طفولته، وكيف كان يخبئ كتب طه حسين بين أكياس القمح والشعير في بيت خزينهم.. ثم باح لي بإعجابه بـ«الماركسية» آنذاك، على الرغم من شعوره بعدم جدوى الشيوعية في المكون العربي المتدّين، ثم سرد لي قصة التحاقه بأحد الأحزاب الإسلامية.. وانفصاله عنه بعد خمس سنوات.
بصراحة لم يترك شيئاً إلا رواه لي، ولم يبقَ سوى أن يخبرني بمقاس «حذائه» وماركة «ملابسه الداخلية»، لكن على الرغم من كل هذا الإسهاب التاريخي والإسهال اللغوي.. إلا أن هناك ما كان يمنع من الانسجام بيننا في الجلسة، أولاً أن كل هذه الأحداث لا تعنيني، وثانياً كان كلما أبحر في الحديث عن نفسه وأنا ازداد حاجة إلى الذهاب «إلى التواليت»، وعندما أحاول أن استأذنته ينهرني ثم يحلف «بالطلاق» ألا أغادر مكاني حتى يكمل حديثه، ما كان يضطرني إلى أن أضع رجلاً على رجل، ثم أبدل اليسرى باليمنى، واليمنى باليسرى.. ثم الانحناء إلى الأمام.. وأحياناً التعرّق والنفخ.. وكلما أعدت المحاولة بأن أقطع عليه للخروج المؤقت.. قال لي «رجاء لا تقاطعني هنا مرحلة مفصلية في حياة الأمة».. فأعود لأضع رجلاً على رجل وأبدأ بالاهتزاز.. وعندما وصل إلى حرب الــ..67 أطفأ المكيّف بحجة أن المكتب أصبح بارداً جداً.. نظرت إلى المكيّف وقلت: خسارة! قال: طبعاً خسارة،حرب الــ67 اكبر خسارة للعرب يا ولدي! ثم حاولت استئذانه للمرة الثالثة بوقت «مستقطع»، فعاد ورفع صوته وقال «رجاء لا تقاطعني هنا مرحلة مفصلية في حياة الأمة»، غادرت مكتبه راكضاً ويدي على حزامي.. ثم شرحت له وجهة نظري وصدى صوتي يخرج من «التواليت»: الأمة مازال أمامها فرصة يا حج.. أما أنا فلااااااااااا.
وبعد أن خرجت مرتاحاً.. لكن متعباً.. محني الظهر.. أعيد ملابسي إلى مكانها وألف حزامي حول خصري.. قلت له اسمع يا عمي، كلامك هذا ثمين..وثمين جداً..لذا اسمح لي بأن أحضر جهاز تسجيل وميكروفوناً في الغد إن شاء الله ليكون التوثيق أدق، والجلسة أكثر شمولية.. وافق الرجل جداً بمجرد أن سمع بكلمة «ميكروفون» ثم ودعني على الباب.
الآن كلما شاهدت «الجزيرة» وبرنامج «أحمد منصور» تذكرّت ورطة «أحمد محصور»! وكلما نظرت إلى «بروموشن» «شاهد على العصر» تذكّرت شاهد على «الحصر».
بالمناسبة.. حتى كتابة هذا المقال لم يعد الفرّاش بالعصير.. كما أنني لم أحضر جهاز التسجيل والميكروفون بعد!
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه.