5 دقائق

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

لم يرغب المولى سبحانه عباده بشيء من العبادات كما رغبهم في الحج، رغبهم فيها بشيء محسوس وأمر ملموس، طالما فرح المرء بمثله لما فيه من حب العاجلة وثواب الآخرة، فقد قال سبحانه مبيناً غايات الحج بقوله: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ..}، والمعنى: أنّ في الحج منافع مقصودة، ومعاني مشهودة محمودة، تقتضي أن يُنادى لها الناس ليأتوا من كل فج عميق، رجالاً وركباناً وعلى كل ضامر، فإذا كان الناس يقطعون الفيافي ويمضون الأيام والليالي طلباً لمصلحة أو تحقيقاً لسعادة عاجلة أو آجلة، فإن هذا النسك العظيم يحقق لهم ذلك من غير كثير عناء؛ لكونه محدود الزمان والمكان، فمن أراده فها هو بين يديه مع فارق العطاء، وكبير الرجاء.

وإدراك هذه المنافع يحصل ببادئ النظر، وأجلها تثبيت الإيمان بالواحد الديان، وتجديده بذكر الرحمن، والثقة بعطاء الملك المنان، فلا يدخل في هذا النسك إلا بتوحيد خالص نقي من الشرك والرياء، فهو يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك.. مدركاً أنه مقيم على توحيد الله، وطاعة مولاه، مهما دعاه أجاب، ومهما غفل آب، لا يقطعه عن ذلك هوى نفس أو قصور إرادة، فقد أدرك أنه عابد للمعبود، وخاضع للملك المقصود، وأنه لم يستخلف في هذه الدنيا ليعيش، بل ليؤمن بمن خلق ورزق، وأنبت وأورق، وأكرم بالعطاء، وأجزل بالوفاء، إنه الذي جعل هذا البناء موجوداً، والخالق مقصوداً، وجعل المشاعر مكاناً لإظهار الشعائر، ليعلم الناس أنّ لهم رباً يُعبد ويصمد إليه في الدنيا بقضاء الحاجات، وفي الآخرة بمغفرة الزلات، لئلا تغرهم هذه الحياة المملوءة بأشغالها وأفراحها وأتراحها، فذلك نسيان لغاية الخلق، ومآل المرء بعد انقضاء الرزق، فكانت هذه العبادة الفريدة التي تكتنفها المشاق، ويحصل معها الفراق، عن الديار والأموال والسفر للملك المتعال، ليتذكر به السفر من هذه الدار إلى دار القرار.

ولما كانت منافعه كذلك، فإنه لم يترك لرغبات الناس من شاء جاء ومن شاء ترك، فإن المعبود سبحانه أراده من الناس كافة، فخاطبهم خطاباً عاماً ليدخل فيه المؤمن والكافر، والبر والفاجر، فقال: {وَأَذنْ فِي الناسِ بِالْحَج}، لأنهم جميعاً مخلوقون لغاية الإيمان والعبادة، لا ليعيشوا كما تعيش الأنعام، فهم مُمَيزون بالعقل الذي أنيط به التكليف، والإنسانية التي كانت محل الكرامة والتشريف، فلابد أن يتأهلوا للدخول في هذا النداء بالإيمان، ومن لم يشأ ذلك فكفر، فإنه يمتعه قليلاً ثم يضطره إلى عذاب النار وبئس المصير.

إلا أن الرحيم الرحمن مع ذلك أناطه بالاستطاعة الجسدية والمادية والأمنية والنظامية والزمانية، فمن تضافرت عليه أسبابها فلم يلب النداء الرحماني بالصوت الإبراهيمي، فما عليه إن شاء أن يموت يهودياً أو نصرانياً، وهو سبحانه غني عن العالمين، لا ينتفع بالطاعة كما لا تضره المعصية، وإنما هي أعمالهم يوفيها لهم ليزيدهم بها فضلاً، ويمنحهم بها مَناً وأمناً في الدنيا والآخرة،

وليست هذه المنافع الوحيدة التي ينالها المرء من حج بيت الله الحرام والوقوف بالمشاعر العظام، فهناك منافع دنيوية أخرى يطمح إليها المرء في حياته، من التعارف والتآلف والتثاقف والتعاطف والتجارة، وغيرها مما لا يدرك إلا في هذه الشعيرة الربانية، والمنحة الإيمانية، وكل واحدة منها يقصدها عقلاء الناس بكثير المال، ويبذل من أجلها راحة البال، فتجمعت لديه في سفرة وتيسرت أسبابها لو كان موفقاً لها.

كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه.

تويتر