أبواب
نساء من حبر!
منذ أن خط الشاعر اليوناني كتابه ذائع الصيت «فن الهوى» قبل الميلاد، وهو يدل الرجال على تنوع النساء وخصوبة تكويناتهن، وسبل ايقاعهن في افخاخ الهوى والحب، والنساء يتخلقن في أذهان الكتاب وفي مخيلاتهم الخصبة بنوع من الاشتهاء الذي يصعب ملامسته أو مشاهدته، بل الاكتفاء بالإحساس بهن! لا لشيء سوى ان هذا النوع من النساء هنّ في الأصل مخلوقات حبرية نشأن وترعرن داخل الحروف، وبين تفاصيل الكلمات وتوالي الجُمل، واستطعن من خلال هذا التراكم اللغوي الجميل أن يحصلن على كل هذا التسيد في الذاكرة البشرية.
ونساء الحبر يتنوعن في حضورهن الكتابي والمؤثر، فأحياناً ينبتن ويتخلقن في قصائد الشعر، فيصبحن حالة عصية على الاشتهاء والتصور، بحيث تتحول الواحدة منهن الى قطعة موسيقى أو هبة هواء تنعش الروح، وتؤجج المخيال.
وأحياناً يتخلقن فوق خشبة المسرح، وعلى الرغم من أن المشاهد يراهن وقد تجسدن أمامه من لحم ودم، الا أنه بعد انتهاء المسرحية يدرك المشاهد بأن التي تقمصت تلك المرأة عادت الى بيتها، تاركة الشخصية التي تقمصتها تعود الى اقامتها الحبرية المُزمنة!
لكن على صعيد النساء اللواتي يقمن في حبر الروايات والقصص القصيرة يبدو أن الأمر أكثر حفراً وفعالية. حيث يبدو الروائي الكاتب الذي اسماه بورخيس بـ«الصانع» أكثر قدرة على استلال امرأته الحبرية وصياغة انوثتها التي تأخذ اللب.
ففي قصص تشيخوف تنهض المرأة في قصة «السيدة صاحبة الكلب» بأنفها الأشم وذاك الكبرياء الذي يميزها فتثير فيك شهوة ترويضها، وبمقابل ذلك يجعلك تشيخوف تشعر بالحزن الغامض وأنت تراقب «أولغا» بطلة أحد قصصه وهي تتقمص أهواء ورغبات وطبائع كل زوج تتزوجه! والأمر ذاته يجعلك تشعر تجاه بطلة يوسف ادريس في قصة «النداهة» حيث المرأة الجميلة والساذجة التي تشعر بأن انوثتها أكبر من القرية، بل هي أنوثة مدينية توصلها في النهاية الى الحب المحرم!
وفي الروايات يحضرن نساء خارقات الجمال وقادرات بقواهن النفسية والجمالية أن يحفرن مكانتهن في مخيال القارئ، على الرغم من كيانهن الحبري! فمن يستطيع أن ينسى نساء د.ه.لورانس، خصوصاً «الليدي تشارتلي»، أو أن ينسى «مدام بوفاري» رائعة فولبير الذي تحدى من خلالها المجتمع الفرنسي آنذاك، وتحدى من خلالها الروح المحافظة الهشة. ومن يقوى على نسيان «لوليتا» تلك الطفلة الحبرية التي سرقت لب رجال العالم حينما صدرت.
حتى الكاتبات من النساء استطعن من خلال روايات أن يجسدن نساء حبريات كنّ أكثر قدرة على اقتياد القراء نحو امرأة الحبر المدهشة، ولنا هنا أنتذكر نساء غادة السمان، ونساء ايزابيل اللندي، وسيمون دبوفوار.
إنهن إذن نساء الحبر المدهشات!
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .