أبواب
لصوص الكلام
كنت قد قلت لأحد الأصدقاء إني حينما ركبت في الطائرة وأخذت أحدق من نافذتها بطبوغرافيا الأرض تحتي، اكتشفت كم هو الإنسان الأرضي أحمق وصغير في خلافاته الاجتماعية والسياسية، والغريب أني وجدت ما قلته من ملاحظة لصديقي الصحافي، قد كتب بالكامل في إحدى زواياه الصحافية، على اعتبار أن هذه الحادثة قد حدثت معه شخصياً!
وفي ملاحظة أخرى، كنت قد قلتها لصديقي الكاتب والمفكر حول بعض الدول العربية التي تشبه في وضعها السياسي الحرج، ذاك «الحرام» الذي كنت أغطي به جسدي عند النوم، خلال إقامتي في أبوظبي ذلك اني كنت قد نسيت بفعل العزوبية والاهمال غسل هذا الغطاء، لذلك ذهبت الى الهندي كي يغسله، وحينما عدت إليه بعد يومين قال لي بعربية «مكسرة»، وهو يمسك الحرام هذا «وسخ وإذا غسلته ما في حرام»!
وقد فاجأني صديقي بأن كتب هذه القصة في احدى زواياه الصحافية باعتبارها كانت قد حدثت معه ايضاً!
هذه عينة واحدة من لصوص الكلام الذين يعانون فراغ الوحي الكتابي، فيعملون على الاستماع الى أي مفارقة، كي يأخذونها الى مطابخهم الكتابية الرثة ليعيدوا تأثيثها من جديد.
وهناك عينة أخرى تعتمد على المفارقات الاجتماعية التي تقال لهم شفاهيا، ومن ثم ينتحلونها ويتحدثون عنها، على اعتبار انها حدثت معهم شخصياً.
وقد اكتشفت أخيراً، ان أحد الأصدقاء ينتحل كل الملاحظات الحياتية والشخصية التي أحدثه عنها من باب التسلية، ويذهب الى حلقات اجتماعية بعيدة عني، ويقوم ببث هذه الملاحظات على اعتبار انها من اكتشافاته.
والغريب أن هذا الصديق، ومع التقادم في سرد القصص ذاتها يبدأ في الاعتقاد بأن مثل هذه الملاحظات والقصص قد حدثت معه شخصياً بالفعل، وقد حدث أن قادتني المصادفة الى مجالسه النائية هذه، وبدأت أسمع المفارقات التي يقدمها على اعتبار أنها من إنتاجه.
وقد بلغ بي الغيظ ان قلت لصديقي هذا «هذه القصص والملاحظات التي تتحدث عنها كنت قد اخبرتك أنا عنها، فكيف تتحدث بها على اعتبار أنها من إنتاجك؟!».
صديقي لم يفعل شيئاً سوى انه ارتبك قليلاً، ثم عاود الحديث كأن شيئاً لم يكن.
أنا هنا تحدثت عن لصوص النطق الشفاهي، ولصوص الكلام الطائر في الهواء، أما الحديث عن لصوص الكتابة، فهؤلاء لهم منطقتهم الأخرى الأعمق جرحاً في الكلام.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .