الهجرة بعد الفتح

صح في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استُنفرتم فانفروا»، وهو دليل عدم بقاء حكم الهجرة التي كانت فرضاً في صدر الإسلام على كل مسلم، ليهجروا أوطانهم وينتقلوا إلى عاصمة الإسلام الأولى، المدينة التي أقام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم دولته، ونشر منها دعوته ورسالة الله لخلقه، ليكونوا رِدءًا له، يؤازرونه وينصرونه ويجاهدون في الله حق جهاده، فما هاجر المصطفى صلى الله عليه وسلم إلا لذلك، عندما أبى عليه أهله في مكة أن ينصروه ويحموه حتى يبلِّغ رسالة ربه، فلما اشتد عود الإسلام وكثر ناصروه، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، عندئذ قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: «لا هجرة بعد الفتح..»، أي لا هجرة واجبة، ولكن ليكن كل امرئٍ موطِّناً نفسه لنصرة الإسلام متى وأين وحيثما كان، وهذا في الحقيقة أشد نفيراً وأكثر نصرة، فهي نصرة عامة ومؤازرة تامة، فكل مسلم على ثغر من ثغور الإسلام، فلا يُؤتى الإسلام من قِبله.

إلا أن الهجرة لا تعني فقط هجرة المكان، بل تعني كذلك هجرة العصيان، والثبات على دين الإيمان، والبقاء في دائرة الإحسان، وهو ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه»، وهذا تعريف بالماهية والمقتضَى، كما يقول أهل المنطق؛ لأن سلامة المسلمين من لسانك ويدك هو مقتضى إسلامك، أي استسلامك لله رب العالمين، فلا تعص له أمراً، ولا تفعل معه نهياً، فمن اتصف بذلك فهو ممن أسلم وجهه لله، وهاجر لمولاه، واشترى آخرته بهواه، وعندئذ يكون مع السابقين الأولين والذين اتبعوهم بإحسان، فمن كان حريصاً على أن يكون مع ذلك الرعيل الذي فاز برضوان الله فليس بينه وبين الوصول إليه إلا تطبيق هذه الحقيقة الإسلامية التي غاب مفهومها عن كثير من أهل الإسلام، فلا يكاد يسلم مسلمٌ من أذى أخيه المسلم، فمنهم من يَلمزك، ومنهم من يغمزك، ومنهم من يفتك بك، ومنهم يبسط إليك يده بالسوء.. ومنهم ومنهم، وهكذا حال الكثير كما قال المتنبي سابقا:

والظلم من شِيم النفوس فإن تجد ذا عفةٍ فلعلة لا يظلم

نعم إنها إما علة التقوى الحاجزة، وهي محمودة لذاتها، أو علة القوة الناجزة وهي محمودة لغيرها، وإن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.

نعم الهجرة التي نتفيأ ظلالها اليوم هي هجرة الهُدى الذي أتانا، وهجرة الخير الذي عرفناه، وهجرة الدولة التي قامت، وهجرة العدالة التي سادت الأمم، وهجرة الرحمة التي عمت البشرية.. هذه الهجرة بتاريخها الحافل، لابد أن يكون لها وقفة تأمل في دلالاتها الكثيرة، ليزيد شكرنا لله تعالى على ما أولانا من نعمه التي لا تحصى، وفضله الذي لا يستقصى، فلولا هذه الهجرة لما قامت دولة الإسلام، ولكانت وثنية الأصنام والأزلام في ديارنا، وكنا في الضلال المبين الذي كان عليه مَنْ قبلنا، ومَن هم الآن بين ظهرانينا في أرض الله الواسعة، والذين يعطونا مثلاً حياً لما كان عليه العرب في جاهليتهم الأولى، فنحمد الله أن أنقذنا من تلك المهايع المظلمة، وجعلنا مسلمين.

كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي

لقراءة مقالات سابقة للكاتبة يرجى النقر على اسمها .

الأكثر مشاركة