محمود درويش ليس للصيد
لم تمضِ عقود على رحيل الشاعر العربي الفلسطيني محمود درويش، لكي تكون ثمة مراجعات مغايرة تماماً لما كانت عليه الحال قبل رحيله. ففي العادة يمضي وقت طويل يكون كافياً للقراءة والتأمل والتعمق والمراجعة والمقارنة قبل الخروج بنتائج مغايرة. هكذا يفعل مؤرخو الفنون والآداب في الغرب. يبحثون ويدققون ويصححون بعض المعلومات ويكتشفون بعض الأسرار ويفكّون بعض شيفرات الغموض. فمؤرخة اكتشفت أن فان كوخ مثلاً لم يقطع أذنه لكي يقدمها هدية لحبيبته، ومؤرخة أخرى اكتشفت أن لوركا قتل في صراع على خلفية ملكية أرض عائلية. وعلى رغم التشكيك الذي يلازم هذا الكلام، والهدف من ورائه، إلا أنه لم يكن ممكناً قبل مرور عقود على رحيل لوركا وفان كوخ.
أما نحن العرب، وأخص المثقفين هنا، فلا نستطيع كظم الغيظ فترة طويلة. ويبدو لي أن بعض الكتاب والشعراء كانوا يشحذون سكاكينهم وسيوفهم للانقضاض على اسم محمود درويش وإرثه الشعري العظيم، استعداداً للحظة سقوطه.
فمن دون أي رفة جفن أو حرج أو وجل أو.. أو.. يطلع علينا أحدهم الذي يدّعي النقد متسلحاً بشهادة جامعية، ليخبرنا بسر عظيم مفاده، أن درويش كان يتكئ على بدر شاكر السياب ولميعة عباس عمارة، وربما أدونيس أو نزار قباني. والمشكلة في هذا الكشف العظيم هي أننا كنا ولانزال من قراء بدر شاكر السياب ونزار قباني وأدونيس ـ طبعاً ليست لميعة عباس من ضمن اهتماماتنا إلا في ما يخص الصراع على أول قصيدة تفعيلة مع بدر شاكر السياب ـ ولا نريد أن نبخس هؤلاء الشعراء حقهم وريادتهم، ولكننا نقول فقط إن محمود درويش الذي قرأهم حتماً، لم يتوقف عند مجازهم ولغتهم. ولم يصب هذا الانتشار العربي الواسع باتكائه على شعراء آخرين، حتى ولو كانوا رواد مرحلة شعرية. ولو كان الأمر كذلك لتمكن الكثيرون من هذا التسلل إلى خيمة السياب مثلاً. وأن يجد الناقد المسلح بشهادة جامعية جملة هنا أو هناك عند درويش لها ما يشبهها عند السياب أو غيره، فهذا محض هراء نقدي، خصوصاً حين ندرك أن إرث درويش الشعري كماً وكيفاً ليس إرثاً صغيراً أو عادياً. ولكي تكتمل مهزلة الهراء النقدي، فإن هذا الناقد نفسه لا يتورع عن اتهام درويش بالسرقة والسطو على بعض الشعراء الصغار.
أي أن محمود درويش، وباختصار، لم يكن شاعراً ولا مبدعاً، وكل ما في الأمر أنه كان رجلاً «فهلويّاً» تمكن دون غيره من المرور في حقول السياب وآخرين وخرج علينا ببعض الأزهار التي لم نرها نحن من قبل.
أما أحدهم، فقد ذهب في اتجاه آخر، ونبّهنا ـ كثّر خيره ـ إلى أن مصادر درويش الشعرية كانت هي التوراة! يا للهول! نعم، اكتشف الرجل ربما جملة هنا أو هناك فتحولت قصائد درويش ودواوينه إلى التوراة.
الثالث كان أكثر تشاطراً، فأخبرنا أن القضية الفلسطينية أو فلسطين هي التي حملت قصيدة درويش. يا الله!! كم شاعراً كانت فلسطين ولاتزال موضوعه الرئيس؟ فلماذا لم نتغنَ بقصائدهم وأشعارهم كما فعلنا بقصائد درويش؟
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .