عبادة الشكر

يتنازع الأصوليون من أهل السنة والمعتزلة عن شكر المنعم، سبحانه وتعالى، هل هو واجب بالشرع أم بالعقل؟ إذ يرى أهل السنة أن شكره سبحانه وتعالى واجب شرعاً، أي أن العبد مكلف به لأمره سبحانه وتعالى به على آلائه الكثيرة، وذلك بمثل قوله سبحانه وتعالى :{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} وقوله جل شأنه: { فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} إلى غير ذلك من الدلائل ، بينما يرى أهل الاعتزال أن شكر المنعم واجب بالعقل، بمعنى أن المرء العاقل يشكر مولاه بمقتضى عقله، فهو يهديه إلى شكره سبحانه؛ لما له على عباده من نعم لا تحصى، وآلاءٍ لا تُستقصى، فلو لم يرد شرع لكان العقل مقتضياً ذلك بداهة، وذلك بناءً على منهجهم العقلاني الواسع.

ولأهل السنة نقاشٌ مستفيض معهم لرد عقلانياتهم التي قد تكون حاكمة على النص الشرعي. وأياً ما كان الأمر فشكر الله تعالى على نَعمائه، هو من أجل العبادات، وحقيقته «صرف العبد جميع ما أنعم الله تعالى به على العبد، إلى ما خُلِق لأجله» فلا يستخدم العبدُ نعمَ مولاه في معصيته تعالى، بل لا بد أن تكون في دائرة الطلب أو الإباحة، فإن صرفت في معصيته كان ذلك كفراناً لها، وذلك مؤْذِنٌ بذهابها، كما يفيده قوله سبحانه: { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} أي أعلَم عباده بذلك، والكفران هنا هو كفران النعم أي جحودها، فإن الله تعالى لا يرضى بجحود نعمه التي أسداها لعباده، وإنما يرضى بشكرها.

ونعمه سبحانه لا يحصيها مُحصٍ ولا يعدها عاد، وأجلُّها نعمة الهداية للإسلام التي خَرجنا بها من ظلمات الجهالة وضلال الديانة، ثم نعمة صحة الأبدان وأمن الأوطان، فهذه النعم التي يرينا المولى عظمتها بمشاهدة من فقدها.

فكيف ترى من يعبد غير الله من حيوان أو إنسان أو هوى الطغيان؟ إنك إن رأيت أولئك سترى أنك في قمة الرُّقي الروحي المتناسب مع رُقِيِّك الإنساني.

وإذا رأيت من فقد صحة البدن سترى فضل الله عليك وأنت بشر سوي، تسرح وتمرح، وتجد طعم الحياة.

وإذا رأيت من ابتلوا بالخوف في أوطانهم، فتخر عليهم السقوف من فوقهم، وتتفجر الأرض من تحتهم، ويتخطفهم الموت من كل مكان، سترى أن فضل الله عليك كبير، تعجز عن أداء شكره، وذلك نوع من الشكر له سبحانه، كما يروى عن موسى، عليه السلام، أنه قال: «إلهي، كيف أشكرك وأصغر نعمة وضعتها عندي من نعمك لا يجازي بها عملي كله؟! قال: فأوحى الله إليه: أن يا موسى، الآن شكرتني». وكما قالوا:

إذا كان شكري نعمةَ الله نعمةٌ عليَّ له في مثلها يجبُ الشكرُ

فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله  وإن طالت الأيامُ واتصل العمر

نعم، هكذا يكون حال شكر النَّعْماء، المستوجب لرضا رب الأرض والسماء.

وإن من شكر الله تعالى شكر من أسدى لنا معروفاً بتوفير أمن الأوطان، وطب الأبدان فإنه «لا يشكر الله من لا يشكر الناس» وحقنا جميعا أن نقول: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ}

كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي

لقراءة مقالات سابقة للكاتبة يرجى النقر على اسمها .

الأكثر مشاركة