متى نكتب الناس وقضاياهم؟
إذا لم يجد الكتاب والشعراء العرب شيئاً يقولونه في غزة، فهذا يعني أن الأدب وصل إلى مرحلة من التغيير، جعلته يفك الاشتباك الذي كان قائماً بينه وبين القضايا الوطنية والقومية الكبرى.
أنا أفهم أن يتطور الأدب تكنيكاً وبناء، وأفهم أن يبتعد عن المناسباتية التي كانت تفرض على الشعراء والكتاب المشاركة في الأحداث والقضايا الكبرى، ولكن هذا كله لا يعني أن تصبح هذه القضايا خارج الخدمة بالنسبة للشعر والأدب. ربما يحتاج بعضهم إلى بعض الوقت، ولكن هذه الحجة سقطت بعد عدوان 2008 الذي مر قاسياً وأكثر دموية من العدوان الأخير، ولم يحرك في الشعر قافية، وفي الأدب استعارة حتى بعد مرور أربع سنوات. وربما أتفهم أن الكتابة المنبرية لم تعد مجدية في ظل انتشار وسائل الاتصال الحديثة، وطغيان أشكال جديدة من التعبير الأدبي، ولكن هذا أيضاً لا يعني أن يتحول الأدب إلى وسيلة إعلامية أو إخبارية.
لقد أشرنا هنا من قبل في مقالة سابقة إلى الأدب والتحريض، وقلنا إن التحريضية في الأدب ليست كلها باطلة، فهي وإن كانت تداعب المشاعر والعواطف، وتتجه إلى الحماسة كي توقظها وتنفخ في جمرها، فهي تبقى لوناً كتابياً لا يستطيع بعض الكتاب والشعراء إلا أن يردوه كحوض أدبي في الوقائع الوطنية الكبرى.
تحتاج الكتابة إلى مسافة موضوعية بينها وبين الوقائع والأحداث والأمكنة، وهذه المسافة زمنية قد تكون أو جغرافية، وسر هذه المسافة يكمن في تمكين الكاتب من تخلصه من عبء اللحظة العاطفية التي تشكل ضغطا نفسيا ربما يمنعه من رؤيةٍ أكثر صفاء وأكثر شمولية لما حدث. والكاتب لا يعيد كتابة ما جرى كما جرى، فهذه مهمة المؤرخ والموثق، والتي أصبحت بمرور الزمن وتطور وسائل الاتصال والتكنولوجيا أكثر يسراً وأكثر دقة من قبل، لكن الكاتب يريد إعادة كتابة ما جرى من زاوية جديدة.. زاوية تسمح له بالغوص عميقاً في باطن الوقائع والأحداث، لا لتفسيرها سياسياً، وإنما لقراءة أبعادها الإنسانية والاجتماعية والثقافية، والكشف عن الطبيعة البشرية الغريبة والغامضة، التي سمحت بحدوث ما حدث كله.
سيكون أول ما يكتبه الكاتب سؤالاً غير بريء على الإطلاق: لماذا يحدث هذا كله؟ لماذا يقتل الإنسان بهذه الوحشية كلها؟ لأجل أي شيء؟ ثم تتوالى الأسئلة التي قد لا تكون مباشرة وعارية: كيف يفعل الإنسان ذلك؟ بأي عاطفة وبأي مشاعر؟ وما هي المبررات التي تقنع شخصاً ما بارتكاب مذابح بشرية على هذا النحو؟ وكيف يقتنع الإنسان بأن عليه أن يفعل ذلك من دون أن يرف له جفن؟
إذا لم تكن هنالك كتابة كهذه وكغيرها أيضاً، فما معنى الأدب بعيدا عن حياة الناس ومصائرهم وراهنهم وحاضرهم؟ ما معنى أن يكتب المرء عن الحب والقلق الوجودي ـ وهي كتابة مشروعة بالطبع ـ ولا يكتب عن موت آلاف من الناس الآمنين؟
هل يستحق انقراض الديناصورات كل هذه البرامج الإعلامية والتحقيقات الصحافية، ولا تستحق المذابح بحق البشر الآمنين كتابة ما؟
عذر الكتابة أنها تتسلح بحاجتها إلى الوقت، ولكننا سننتظر.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .