أبواب
أبطال الظل والضوء
الكتابة حياة، وعالم مكتمل، ولأنها كذلك فثمة شخوص تنتزع لنفسها مواقع الصدارة وتسرق الضوء، أو كما يقال في السينما «ثمة ممثل يسرق الكاميرا»، وثمة شخوص أخرى تبقى في الظل وفي الهامش، الفارق بين الواقع الموضوعي والكتابة يكمن في أن الكاتب هو من يريد لبعض الشخوص أن تكون في الضوء ولأخرى أن تكون في الظل، أي أن السبب فني في المقام الرئيس، ولكن، هل هذا يعني أن شخوص الظل فائضة عن الحاجة؟ وهل يمكن الاستغناء عنها؟
من يفكر كذلك عليه أن يسترجع في ذاكرته بعض هذه الشخوص، وليتذكر سانشو بانزا مثلاً، وكيف يمكن لرواية دون كيخوتة أن تكون من دونها؟ وربما لو أردنا استعراض بعض الشخوص في الآداب العظيمة لما انتهينا، وقد يقول قائل عن شخصية مثل سانشو بانزا أو «ياغو» في «عطيل» شكسبير هما شخصيتان رئيستان، ومن شخصيات الضوء لا الظل، فما بالنا بشخصية مثل «حنة» في رواية «الأشجار واغتيال مرزوق»، وهي الزوجة التي لم تعش سوى ثلاث صفحات في الرواية موضوعياً؟
«حنة» التي لم تعش مع إلياس نخلة سوى تسعة أشهر وماتت في الولادة، تلعب الدور الأكبر في مصير إلياس وتوجهه واختياراته لاحقاً، وهي بذلك شخصية ضوئية، حتى لو لم تكن حياتها في الرواية تتجاوز الصفحات الثلاث، وما كان للعسكري الطيب «شفيك» أن يتقرر مصيره في الحرب لولا السيدة صاحبة الحانة التي أخبرته بمقتل ولي عهد النمسا فرديناند، ولولا المخبر الذي وشى به واتهمه بإطالة اللسان على صورة الإمبراطور.
اللافت في شخصيات الظل هذه في الكتابة هو أنها في الأصل شخصيات هامشية موضوعياً، باستثناء بعض شخصيات شكسبير، بالنظر إلى أن المحيط الذي يتحرك فيه شكسبير هو محيط الملوك والأمراء والأسياد، واللافت أيضاً هو أن كثيراً من شخصيات الضوء هي في الأصل شخصيات هامشية، جرى انتزاعها من الهامش الموضوعي وإعادة الاعتبار إليها فنياً، ومنحها الدور الذي يرى الكاتب أنها مؤهلة للقيام به.
وكما لا يمكن للقائد أن ينتصر أو أن يحارب من غير جنود، فإن الكاتب لا يمكنه بناء عالمه من دون هذه الشخصيات الهامشية والقابعة في ظل الشخصيات الضوئية، بل نرى شخصيات الظل في كثير من الحالات هي التي تقرر مصائر الشخصيات الضوئية، كما فعل ياغو بمنديل ديدمونا الذي بسرقته قُتلت ظلما، وما كنا رأينا آنا كارينينا تعيش قصة الحب المميتة لولا وجود الزوج كارينين، تماماً كما حدث مع إيما بوفاري التي لم تكن لترتكب هذه الحماقات كلها لولا وجود شخصية الزوج الهامشية شارل بوفاري.
الخطأ الجسيم الذي يقع فيه بعض الكتاب يكمن في طريقة انتشال الشخصيات الهامشية من الحياة، وفي طريقة تسليط الضوء عليها، وفي عدم فهمها كما ينبغي، إذ تتحول إلى شخصية ضوئية أضعف بكثير مما لو ظلت شخصية هامشية، والفنان العظيم هو من يبني شخصية الظل بقوة عظيمة، بحيث لا يمكن التفكير في العمل الفني كله من دون حضور هذه الشخصية، وهذا يشكل أحد المعايير في الفن، فلا يكفي أن تسلط الضوء على مقاتل شجاع، وتنسى امرأة تنتظره في البيت، وتنسى أن تُطلعنا على هواجسها ومخاوفها وأحلامها وأفكارها.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .