أبواب
محنة النقد العربي
من يقرأ الفتوحات النقدية العربية التي تألقت في القرن الرابع الهجري، ومن يقرأ عبدالقادر الجرجاني وهو يتصفح المُنتج الإبداعي آنذاك، بتلك العين النقدية الثاقبة، لابد أن يصاب بالفقر النقدي الذي يعيشه النقد العربي هذه الأيام، لا بل باليُتم المعرفي الذي وقع فيه نقدنا العربي المعاصر منذ مطلع القرن الفائت وحتى هذه الأيام.
وعلينا في البدء أن نشير الى مسألة مهمة وهي أن النقد العربي المعاصر ومنذ بروز دولة محمد علي وبداية انطلاق نهضة الدول العربية الحديثة، أن هذا النقد ولد ملجوماً، بسبب مرجعية التخلف التي أسست لها تركة الدولة العثمانية، ووقوع أي فكر جديد في اعتراك معركة الحرام والحلال.
ولعل تجربة الرائد الأول رفاعة الطهطاوي كانت خارقة ومباغتة للمجتمع الساكن والهادئ وهو يغط نوماً في بحر الأعراف والتقاليد، وهو ينقل حضارة باريس، قد جعل الدهماء يستيقظون ليحاربونه ويجعلونه يقيم في أقاصي السودان، في قرية كي يدرّس طلاب الصف الرابع الابتدائي!
والأمر ذاته يستوي عند عبدالرحمن الكواكبي الذي قدم معارفه النقدية والسياسية فانتهى مسموماً من فنجان قهوة كي تسجل جريمة قتله ضد مجهول.
والحالة تنطبق أيضاً على عميد الأدب العربي الراحل طه حسين الذي كتب كتاباً نقدياً حول شبهة الشعر الجاهلي، ما أدى الى منعه من التدريس في الجامعات المصرية، وممارسة فن التعذيب والإقصاء عليه حتى اضطر في النهاية الى الاعتذار عن ذاك الكتاب الذي اعتبر لاحقاً من الفتوحات النقدية المبكرة.
هذا اللجم المزمن للناقد العربي ولّد وأكد على توالي حالات الحصار، والتضييق عليه تاريخياً أدى الى ولادة رموز نقدية تبدو مرتبكة وهي تسير في أرض المجتمعات الملغمة بتقاليد الكبح وتغول السلطة المجتمعية والسياسية.
وإذا دخلنا في احصاءات المرجعيات النقدية لهذا الرمز النقدي العربي أو ذاك فإننا سنجد أن معظم هذه الرموز تتكئ في مرجعياتها النقدية على مناهج غربية، ومن الصعب أن تجد ناقداً عربياً استطاع ان ينتج نهجاً نقدياً عربياً خالصاً!
ومن ملامح محنة النقد العربي الذعر الأكاديمي عند اساتذة حملة الدكتواره في الأدب والنقد عموماً، الذين تظل همتهم مقتصرة على الحرم الجامعي وعدم مغادرته، واصرارهم العجيب على الاستغراق في الماضوية النقدية العربية التي تجاوزها الجرجاني.
أما المحنة الموجعة في نقدنا الأدبي فهي ظهور النقد الصحافي الانطباعي، الذي يحيا ويموت في مقبرة ومحرقة الصحافة اليومية، وهو على الأغلب من نوع النقد التوصيفي الذي لا يجرؤ على الحفر عميقاً في النص الأدبي وتأويلاته.
والحال فإن الخسائر الابداعية من محنة النقد العربي لا تحصى، خصوصاً أن هذا الغياب النقدي قد خلف لنا أشباه أدباء لا رادع لهم!
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .