زمن القراءة المُصمتة
في زمننا «الجحري» هذا، ونحن نلحظ ان معظم القراء يدخلون في جحرهم القرائي، حيث لا وصل ولا اتصال، تاركين المثقف يدخل في قراءة مصُمتة.
وعليه يحق لنا جيل السبعينات من القرن المنصرم، أن نتفاخر في قراءاتنا الإبداعية والأدبية، ذلك أن القراءة للمنشورات الإبداعية كانت تبدو لنا كنزاً لا يجوز لأي واحد أن يحتكرها لمصلحة وجدانه القرائي الخاص. بل كانت القراءة لأي كتاب طازج في الساحة الأدبية العربية والغربية، تولّد فينا حالة من الاستفزاز القرائي الذي كان يدفعنا للبحث عن القارئ الشريك، الذي من الممكن أن يشاركنا تلك البهجة القرائية، حيث كان يقودنا هذا آنذاك الى القيام بالدعوة الى ورشات قرائية نتبادل فيها الآراء حول هذا الكتاب أو ذاك.
ولعل ذلك كان في مرده الأساسي يعود الى شح الدخل النقدي لنا جيلاً شبابياً، ولهذا كان يتعذر على الواحد منّا أن يحتكر شراء الكتاب وحده، وهذا كان يجعلنا نتناوب على شراء الكتب وذلك بحسب الدخل الشهري لكل واحد منّا. والحال اننا كنّا نعيش في حالة يُمكن تسميتها بالاشتراكية القرائية!
وفي هذا المقام مازلت أذكر شرهنا القرائي في كتب ماركس، ولينين، وبرنارد شو، ونجيب محفوظ، وكولن ولسون ود.هـ لورانس، وسارتر، وكامي، ولورانس داريل، ولوركا، وعبدالرحمن منبف، وجبرا، ورامبو، وبودلير، وغوركي، وتشيخوف، ودوستوفيسكي. وكان هذا الشره القرائي يقوم على نظرية تمنح حق المقتني الأول أن يكون له سبق القصب في قراءة الكتاب، ومن ثم نتحول الى ترتيب الأدوار في التنقل القرائي.
وفي حالة الاكتمال القرائي كنّا نعقد الورشات التفقدية لمثل هذه القراءة، وكانت هذه الورشات تقوم بفعل تعميق القراءة عند كل واحد منّا، واقتيادنا الى فضاءات جديدة للنص الإبداعي الذي تمت قراءته.
ولن ابالغ ان قلت ان بعض رواد الكتابة العربية كانوا يدعون بعضهم البعض من خلال رسائل واتصالات هاتفية بالدعوة الى المشاركة القرائية!
وعودة الى زمننا المضارع القرائي المُعاش، فإن القراءة تحولت الى قراءة جحرية بامتياز، بحيث تشعر بفقدان القراءة المشتركة مع كل المبدعين العرب، وان القراءة تحولت الى فعل اناني وذاتي يصعب تخمينها، وبدا الواحد منّا في حالة قراءة مُصمتّة وغامضة ويصعب الاستدلال عليها.
باستثناء بعض حالات التسلل في ان يباغتك احدهم بسؤال مباغت لا يخلو من الخبث الفضولي وهو يسألك: «ماذا تقرأ هذه الأيام».
اننا في زمننا القراءة الجحرية هذه نظل بحاجة الى استرداد عافية القراءة التشاركية التي كانت تزلزل فينا كل ما هو ساكن وجداني، وهي تجدد روحنا عند كل قراءة. لكن السؤال هو من ينقذنا من جحورنا القرائية هذه التي أفقدتنا أوكسجين القراءة؟!
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .