الاحتلال الغنائي!
مازال العربي يعاني الارتباط الحميم بماضويته، وهذا الارتباط ينعكس على كل مناحي حياته الاجتماعية والسياسية، وربما الاقتصادية، إلى درجة أن هذا التعلق الدهري بالماضوية عند الشخصية العربية تحول إلى ما يشبه الحماية من الوضعية الآنية والمضارعية في مواجهة كل ما هو طارئ وغير متوقع.
ومنذ مطلع تسعينات القرن الفائت بدأ الفن العربي عموماً يعود إلى ما أسس له الرواد، وبدت الساحة الغنائية العربية تعاني الجدب في الإبداع، ذلك أن زمن عمالقة الفن العربي بدأ بالأفول، وبدت الأغنية العربية تعيش حالة من اجترار الألحان الجديدة، ذاهبة بفن غناء الزمن الجميل الى «النطنطة» والتقافز والتصفيق وهز الأجساد!
ويا ليت الأمور توقفت عندهذا الحد، بل حدثت في الساحة الغنائية العربية حالة من السطو على جميع المنجزات الغنائية لزمن العمالقة، فصار الفتى صاحب الصوت الذي نبت للتو يغني لأم كلثوم ولعبدالحليم حافظ ولعبدالوهاب، وصرنا نستمع لبعض الأغاني التي يصدح بها هذا وذاك كأنها ملكية خاصة به.
وبالطبع فإن هذا لا علاقة له عربياً بحقوق الملكية الخاصة بالمؤلف والملحن والمغني، هؤلاء الذين أفنوا أعمارهم في سبيل تحقيق هذا المستوى الغنائي العريق.
وفي ذاك الزمن إذ كان المغني عاشقاً والشاعر والملحن، فقد كان اللحن يخرج من مساحة أصيلة في الروح ليمتلك بعد ذلك كل هذا الجمال الذي يأخذ اللب والوجدان، ليؤسس بعد ذلك لمرحلة غنائية عربية تستحق الاحترام.
لكن الجدب الغنائي العربي - إن جاز التعبير - أخذ يهبط بمظلة مثقوبة على معظم هذا الإنجاز العربي الغني بأصوله الطربية والفنية، كي يتقمص هذا المُنجز ويقدمه باعتباره من إنجاز هذه الأصوات، وأكاد أجزم أن العديد من الأصوات الغنائية العربية أخذت مكانتها الفنية، وحصدت الأموال ذات الأرقام الفلكية بسبب احتلالها بعض منجزات فن غناء الزمن الجميل.
وفي العودة الى ذاكرتنا الفنية في ذاك الزمان فإننا نجد أن عبدالحليم حافظ قد غنى العديدمن الألحان التي كان قد غناها عبدالوهاب، وأن فيروز شدت بأغنية «يا جارة الوادي» بعد أن طلبت ذلك من عبدالوهاب الملحن الأساسي لتلك الأغنية، وكذلك الفنانة نور الهدى حينما غنت الأغنية ذاتها. وأنا أذكر أني سمعت مقابلة مع الفنانة اللبنانية تسرد فيها شغفها بأغنية «الأطلال» لأم كلثوم، وكيف ذهبت الى ملحن الأغنية رياض السنباطي، وأخذت ترجوه أن يسمح لها ولو مرّة أن تؤديها على المسرح، وقد وافق السنباطي، لكننا في زمننا الأعرج هذا المُدجج بالهيلمان، فقد صار من الطبيعي أن يصعد كل هؤلاء بأصواتهم على حساب المُنجز الغنائي العربي دون الرجوع بالحقوق الى أصحابها الأصلاء ولا إلى أحفادهم!
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .