أبواب
السردية التاريخية والسردية الدينية
لا أشك أبدا في وجود فارق كبير أو صغير، بين السردية الدينية والسردية التاريخية، وكنت كتبت قائلا من قبل في غير مناسبة، ما معناه أن من أكبر الأخطاء أن نعتمد الرواية الدينية مصدرا للتاريخ.
لكنّ المشتغلين العرب في هذا الموضوع، يقعون في مشكلة أخرى، وهي الحفر في اللغة، وقد وجدت ذلك في كتب فراس السواح، وسيد القمني، وكمال صليبي، والشاعر زكريا محمد وآخرين، واستمعت إليه مباشرة من الدكتور فاضل الربيعي.
ومشكلة الحفر في اللغة تتعلق بالبحث عن أصول الكلمات، التي استقرت في السردية الدينية أو التاريخية. ويشجع الباحثون في هذا السياق عملية القلب في اللغة العربية ولهجاتها الكثيرة، وأعني هنا قلب الأحرف.
أما المشكلة الأخرى فهي تتعين في وجود أسماء لأماكن وردت في الكتب الدينية كالتوراة والأناجيل، وتبين ـ بالنسبة لغير باحث ـ أنها لا تقع حيث تقول السردية الدينية، وإنما في بلاد أخرى، ما يعني أن الرواية الدينية هنا محرفة أو مزورة أو مغلوطة، وقد برع في ذلك الباحث كمال صليبي، والدكتور فاضل ربيعي.
ما أود تأكيده هنا، هو أن الروايات الدينية التوحيدية استقرت وانتهى الأمر، ولم يعد مجديا البحث في تاريخيتها، سواء كان ذلك لإنكارها أو لإثبات صحتها، لكن ما ينبغي لنا العمل عليه، طالما امتلكنا هذه الأدوات اللغوية، وبعض المسرودات التاريخية، هو أن نحاول تصحيح الرواية التاريخية لا الدينية، فالرواية التاريخية قابلة للتصحيح عندما تتوافر العلامات والدلائل، لغوية كانت أم أركولوجية. وليس من قبيل تزجية الوقت أن يقوم العدو الإسرائيلي منذ إنشاء دولة دخيلة على أرض فلسطين، بالبحث والتنقيب عن الآثار المادية، لكي يطابق هذه اللقى مع الرواية الدينية. فالمسيحيون مثلا لا يهمهم إن كان بيلاطوس أمر بصلب المسيح تنفيذا لرغبة يهودية أم لا، أقصد أنهم لا يفتشون عن سند تاريخي لهذه المروية طالما استقرت دينيا في الوعي الجمعي للبشرية. وحتى لو قام عشرات بابوات الفاتيكان بتبرئة اليهود من دم المسيح، فهو لن يقدم ولن يؤخر لأن هذه حقيقة دينية لا تاريخية، لكن كثيرا من أسفار التوراة التي بين أيدينا لم يستقر تماما في الوعي الجمعي البشري، وهذا ما جعل الصهاينة يفتشون وينقبون للعثور على أدلة مادية تسند المروية الدينية. أدلة تاريخية تؤكد المرجعية المقدسة للحق الصهيوني المزعوم في فلسطين، بوصفها أرض الميعاد.
ليس مهما الآن من أين جاء المسيح، المهم أنه جاء واعتنقت مليارات الناس هذه الديانة، وبالتالي يصبح البحث في أصول المسيح ومنشأه مجرد تزجية للوقت، ما لم تكن هنالك أدلة حسية متعينة في اللقى التاريخية تثبت غير ما قرأته البشرية وآمنت به.
هنالك اجتهاد يبحث في الروايتين التاريخية والدينية، وهو اجتهاد قائم على حفر لغوي وعلى كتابات متباينة، وعلى تشابهات بين شخوص مقدسة دينيا في مراحل متباينة، وهو أمر لا يشكل دليلا قاطعا يؤكد أو ينفي حقيقة دينية تمتلك من القوة والرسوخ ما يجعلها أقوى بكثير من هذه المقاربات اللغوية. فموسى التوراتي شبيه جدا بسرجون الأكادي، لكن لا المسلمون ولا المسيحيون ولا اليهود قادرون على اعتماد هذا التشابه، لنفي وجود موسى عليه السلام، ونسخ قصته من جذورها.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .