مزاح .. ورماح
شِعر «سيليلوزي»
على زماننا، كان في منهج اللغة العربية للمرحلتين الإعدادية والثانوية كتاب منفصل يدعى «النصوص»، فيه أبدع القصائد، وأدفأ القصص، وأرقى قطع النثر العربية المختارة.. وهناك فقط حفظنا لأحمد شوقي:
ريم على القاع بين البان والعلم
أحل سفك دمي في الأشهر الحرم
رمى القضاء بعيني جؤذر أسدا
يا ساكن القاع أدرك ساكن الأجم
لما رنا حدثتني النفس قائلة:
يا ويح جنبك بالسهم المصيب رمي
جحدتها وكتمت السهم في كبدي
جرح الأحبة عندي غير ذي ألم
وطربنا لقصيدة حافظ إبراهيم الشهيرة «اللغة العربية»:
رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي
وناديت قومي فاحتسبت حياتي
رموني بعقم في الشباب وليتني
عقمت فلم أجزع لقول عداتي
حتى إن هذه القصيدة تحديداً استخدمتها في مراسلات الحب والغرام أثناء المراهقة، فالصبية التي كنت أحبها، وأوصل لها رسائلي باستمرار لا تدري من قائل هذه الأبيات، ولا تعرف سبب كتابتها، ولا في من كتبت أصلاً، ولأن مطلع القصيدة فيه عتاب (رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي)، فإن الفتاة شعرت بالذنب تجاهي.. فكتبت لي رداً على رسالتي: أعرف أنك عاتب علي من خلال أبيات الشعر الجميلة التي كتبتها فيّ.. لكن صدقني «أبوي ما خلاني اطلع»!
كنّا نحب الشعر إلى درجة العشق، وما إن تقع بين أيدينا قصيدة حتى نحفظها عن ظهر قلب، ونرددها و«نموسقها» ونترّنم بها صباح مساء.
الآن، عمّق بعض الحداثيين القطيعة بين القصيدة وجمهورها، بعد أن استهانوا بالكلمة، وبعثروا الصورة، وقفزوا عن نوتة الموسيقى بحجة التجديد، فمثلاً، قبل أيام كنت في المقهى، تقدم مني شاب صغير يرتدي «قبّعة المثقّفين» الصوفية، وباكتئاب مبالغ فيه، سلّم عليّ، ثم فتح حقيبته وأهداني ديوانه الأول، ثم غادر:
ولأن الأرجيلة في أولها، وأمامي فنجان من القهوة، بدأت أقرأ ديوانه الشعري، فلم أستطع فهم قصيدة واحدة من أصل ثلاثين قصيدة، كأن شعار بعض الجيل الشاب، كلما كنت غامضاً أكثر تجنّبك النقاد وهابوك أكثر، على أنني هنا أرفق إحدى القصائد التي سمّاها الشاعر الشاب «سيليلوز»، حيث يقول:
أنت انفلات الضوء من تحدّب العتمة
أنت شبق الإسمنت في تكوّر الأنا..
ارميني على متاهات الطريق حلزوناً
أو جففي بي عرق «السالسا» الباردة..
ثم اتركيني أموت موتتي الأخرى لأحيا..
من بين الحرف حزناً غرانيتياً ووردة..
صدقوني لو استمررت بقراءة القصيدة حتى نهايتها لوجدتموني الآن في مستشفى الأمراض العقلية.
❊❊❊
زمان كان يكتب على رأس الصفحة التي تحتوي نصوصاً جميلة وغير مطالبين بحفظها في المنهاج.. عبارة «اقرأ واستمتع»، والآن ومع ممارسة الحداثة بمفهومها الخاطئ، والانفلات الكتابي، والضياع النقدي، والانحدار الأدبي،
صارت للأسف «اقرأ واستفرغ»!
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه.