لعنة الحوار السياسي العربي
لكأن الأمة العربية جمعاء كانت فاقدة النطق وفجأة هبط على لسانها علم الكلام فصارت فكرة الحوار تأخذ السمة الثأرية من سنوات دهرية كان الصمت القمعي المُطبق هو المُهيمن، وفجأة نبتت في الواقع السياسي العربي فكرة «الحوار»، وفي مضارعنا السياسي العربي ووسط الاخضرار الملتهب لربيعنا العربي، صارت كل الثورات، التي دفع الشهداء من الشباب بدمهم ثمنها، بحاجة إلى حوار.
فالثورة الفلسطينية التي انشقت طولياً وعرضياً بين «فتح» و«حماس» صارت ترحل حوارها العصي من عاصمة عربية الى أخرى، والمهم أن الأطراف المشاركة ما أن يُعقد المؤتمر التوفيقي للمصالحة الفلسطينيةحتى يظهروا على شاشات الفضائيات وهم يبشرون الشعب الفلسطيني بفرحة الاتفاق والتوصل عن طريق الحوار الى مصالحة شاملة، لكنهم ما أن يغادروا مطارات تلك العواصم إلا ويتجدد الخلاف والدعوة من جديد إلى الحوار! حدث في مؤتمر مكة، وحدث هذا ربما في مؤتمر الدوحة، وبعد ذلك حدث في جلسات ماراثونية في القاهرة، الى أن تم الإعلان عن الاتفاق على أدق التفاصيل في الخلافات بين «فتح» و«حماس» ومع ذلك ما زلنا نستمع لتصريح هنا وآخر هناك يتحدث عن عراقيل في الحوار!
والثورة المصرية الطازجة التي كانت بالفعل إحدى التفريخات المهمة لثورة «الربيع العربي» تعاني هي الأخرى تعلات في الحوار بين الشباب الذين أنتجوا هذه الثورة والشخصيات الليبرالية ممثلة بأحزاب الوفد وتجمع اليسار وحركة كفاية، التي تشكل ما يُسمى «جبهة الإنقاذ»، ويقابل كل ذلك حزب «الحرية والعدالة» التابع لـ«الإخوان المسلمين» و«حزب النور» وبقية الحركات الإسلامية في مصر، وعلى الرغم من أن «الإخوان المسلمين» استطاعوا أن يفرزوا زعيماً من بينهم يحكم مصر، مثل الرئيس محمد مرسي، إلا أن «الحوار» بين كل هذه الأطراف هو المشكلة الحقيقية، فالرئيس يدعو المعارضة إلى الاجتماع والتوافق معه في القصر، إلا أن المعارضة لها على كل دعوة لـ«الحوار» تحفظاتها التي لا تنتهي!
ومشكلة الحوار في الثورة التونسية، فاتحة الربيع الثوري العربي، لها مشكلاتها المستعصية أيضاً، ومن يتابع التداعيات الأخيرة في تونس ابتداء بمقتل بن عياد ومروراً بالعصيان المدني في بعض المناطق التونسية، وانتهاء باستقالة رئيس الوزراء الأخيرة، يجد أن الارتباك السياسي العام يعود إلى فقدان لغة الحوار.
وفكرة الحوار وتعلاته تنعكس أيضاً على اليمن الذي انقسم الى فئات وحراكات انقسامية تشي بعودة الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح، لكن هذه المرّة من الباب، بعد أن خرج سابقاً من النافذة! هذا إضافة إلى التهديد القاعدي وانتفاضة القبائل!
ومن جهة أخرى، فإن الدم المتدفق في سورية ظل منذ انطلاقة الثورة السورية يقذف باتجاه المساحة المستعصية لتخليق «الحوار» بين المعارضة السورية والنظام. وظلت جهات دوليةممثلة بالجامعة العربية وهيئة الأمم المتحدة تحث الجهات المتحاربة على الذهاب نحو الحل السلمي والسياسي واستبعاد الحل العسكري، وكان كل ذلك يحمل عنواناً واحداً هو «العودة الى الحوار».
وهكذا نكتشف جميعاً أننا في أزمة حضارية أساسها فقدان لغة التخاطب ولغة الحوار!
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .