أبواب

المثقف العربي والحداثة

يوسف ضمرة

لو قبل الكاتب بالواقع المعيش ورضي عنه، لما كتب حرفا. فالكتابة أُسّها الرفض والتمرد والقلق، وإلا فلماذا وجد كافكا نفسه حشرة لزجة ذات إفاقة؟ ولماذا اخترع لنا بيكيت بطله الغريب «غودو»؟ ولماذا حمل دون كيخوتة رمحه وانطلق يجوب البلدان؟

لكنك لا تستطيع أن ترفض الواقع لفظيا وتتقبله موضوعيا، فأنت ككاتب تريد هدم البنية التقليدية لتحل مكانها بنية حديثة بمفاهيم حديثة، أي أن المفاهيم الحديثة لا تنسجم وبنية اجتماعية نمطية وتقليدية، والبنية التقليدية لا تصلح أبدا لإشاعة المفاهيم والأفكار الحديثة، هذا يعني أن عليك أن تتخلص من أساليب المعيشة والإنتاج التقليدية قبل أن تتهم نفسك زورا بالحداثي، ولا يمكنك أن تكتب عن عزلة الإنسان وضياعه واغترابه وقلقه الفردي وأحلامه وهواجسه في قالب عكاظي.

خلاصة القول إن مشروع الحداثة كل يتجزا، فلا يصح أن تكون حداثويا في الشعر ورجعيا في المنزل، ولا يصح أن تكون حداثويا في القصيدة ومحافظا إلى حد التزمت في المعاملات الإنسانية، وإذا أردت أن تتعلل على الطريقة البدوية فينبغي عليك اختيار بنية بدوية، أما إذا أردت أن تقيم علاقات حداثوية فهذه تتطلب أشكالا أخرى.

ما يحدث عندنا وفي عالمنا العربي، هو تعبير عن انشطار الشخصية العربية نفسها، والكاتب لا يشذ عن السائد إلا من رَحِم ربي، فالشخصية العربية تريد أن تستغل المنجزات الغربية الحضارية المادية، من دون أن تتخلص من العبء المحافظ في الثقافة والفكر، تريد أن تكون حضارية ومعاصرة وترفض في الوقت نفسه قيمة الشك، تريد أن تكون مادية في جانب ومثالية في جانب آخر، وهو انشطار تاريخي رافق الشخصية العربية منذ مئات السنين، وربما يعود جزء من هذا الانشطار إلى ما تعرضت له الشخصية العربية من استلاب تسببت فيه الحال القطيعية للمجتمعات العربية، فلا قيمة للفرد من دون الجماعة عبر التاريخ العربي، هذا لا يعني أننا ندعو إلى عزلة الفرد وانقطاعه عن حاضنته الاجتماعية، لكننا نؤكد أن مشروع الحداثة قائم في جزء كبير منه على قيمة الفرد كإنسان مستقل يتمتع بحرية التعبير والموقف والاختيار، وهو الأمر الذي لم تعتده الشخصية العربية من قبل.

من هنا كان المشروع الثقافي العربي الحداثوي يصطدم على الدوام بهذه الازدواجية في الشخصية العربية، طللية شعرية في الجوهر، وشكل يستنسخ أشكال الشعر الحديث في الغرب، صراخ وشعارات تتشدق بالحرية والديمقراطية من جهة، وانخراط كليّ في الثقافة القطيعية من جهة ثانية، فالشاعر العربي هنا لا ينتمي إلى مشروع ثقافي وفكري في الجوهر، وإنما هو أسير المشروع التقليدي الذي يلغي فردانيته ويحظر شكوكه المشروعة، ويقلم أحلامه وأفكاره الإنسانية الأرقى.

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر