5 دقائق
المدينة المنورة عاصمة الثقافة الإسلامية
انتبهت أخيراً منظمة «الإيسسكو» للتربية والعلوم والثقافة التابعة لمنظمة التعاون الإسلامي، للمدينة المنورة لتجعلها عاصمة للثقافة الإسلامية لهذا العام، بعد سبق عواصم ومدن كثيرة لها باختيار هذا اللقب الذي يُخلع على من تستحقه من المدن الإسلامية كل عام، بموجب مقوِّمات ومعايير توزن بها هذه المدن، ويتم الاختيار في ضوئها.
والغريب أن هذه المدينة التي هي مأرِزُ الإيمان، ومنبع العرفان، ومصدر ثقافة الإنسان جاء اختيارها متأخراً جداً من قبل المنظمة، وهو تأخير متعمد يحتاج إلى إجابات شافية.
فإذا كانت معايير الاختيار لهذه العواصم هي التراث، فليس هناك تراث أكثر ولا أبرز من المدينة، وإذا كانت الأقدمية فالمدينة أول مدن الإسلام؛ فمنها شع النور، ومنها قامت الدولة الإسلامية، وإذا كانت الحضارة فليست هناك حضارة مدنية ولا عمرانية أرقى منها.
إذن فلماذا تأخرت هذه الفترة كلها منذ نشأتها عام 1981م، وقد كان الأجدر أن تكون مكة والمدينة العاصمتين الأوليين لهذا الاختيار؛ لتوفر كل المعايير المرشحة للاختيار؟
لعلك أيها القارئ لا تجد إجابة شافية، إلا أنه لا يُخالجك الشك في أن هاتين المدينتين العظيمتين الكريمتين، والحرمين الشريفين، هما عاصمتا الثقافة الإسلامية حقاً وحقيقة من قبل أن توجد هذه المنظمة وتوضع هذه المعايير،
وليس يصح في الأذهان شيءٌ إذا احتاج النهار إلى دليلِ.
لقد حضرنا الاحتفال البهيج الذي أقيم بهذه المناسبة العزيزة على أنفسنا ونفس كل مسلم، كما حضرها جمع كبير من رواد العلم من العالم الإسلامي، وشاهدنا المدينة بصورتها الحقيقية يوم نشأتها عاصمة للدولة الإسلامية منذ مقدم سيد الخلق ـ صلى الله وسلم عليه ـ ولكن في رسوم تراثية تخيلية من واقع الآثار والأخبار، لا من واقع الأنظار، فالمدينة بمعالمها الأثيرة لم يبقَ منها رسم ولا معلم بطرازه القديم إلا مسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأطلال جبل أُحد المحبوب، وثَرى البقيع الطاهر، بل لم يبق بها رسم سوى هذه، فأين تلك المعالم الكثيرة التي عجَّت بذكرها السنة المطهرة، وترتب على ذكرها ومعرفتها أحكام؟! وقد كان السلف أحرص الناس على بقاء هذه الآثار النبوية، يقول عطاء الخراساني: حضرت كتاب الوليد يُقرأ: يأمر بإدخال حُجر أزواج النبي، صلى الله عليه وسلم، في المسجد، قال: فما رأيت يوماً كان أكثر باكياً من ذلك اليوم، فسمعت سعيد بن المسيّب يقول: والله لوددت أنهم تركوها على حالها ليقدم القادم من الآفاق فيرى ما اكتفى به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في حياته، ويكون ذلك مما يُزهِّد الناس في التكاثر والتفاخر فيها.
هذه قيمة الآثار في المدينة أن تكون أسوة للخلف بحال السلف، أن يُعرف الحال الذي كان عليه المصطفى، صلى الله عليه وسلم، وآل بيته، وأنهم لم يكونوا يؤثِرون الدنيا على الدين، أن يَعلم الناس أن النبي، صلى الله عليه وسلم، خطط المدينة، وجعل فيها الأسواق، والمساجد، وحمى ثغورها، بل جعل المدينة كلها حراماً كما حرم إبراهيم مكة، فأين حصونها وآطامها وآبارها ومساجدها وأسواقها وبساتينها؟ فإنه يترتب على معرفة ذلك أحكام وآداب، ولئن قد ضاع كثير من هذه الآثار، فإن الأمل كبير أن تعود في التخطيط الكبير الذي هي قادمة عليه، أملنا أن نرى فيها آثار نبينا وأصحابه الكرام.
كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه.