السكراب..
في ظل الهموم اليومية، والإحباطات التي تلتصق بالجلد كالرطوبة الصيفية، في ظل هذا التهميش، وهذا الغياب وهذا الضنك، في ظل انتقال «الميكنة» إلى كل شيء، حتى إلى أجسادنا الهزيلة والمهملة فوق المقاعد، وفي طوابير الازدحام، ماذا لو فكّرنا في أن نعامل أنفسنا كما نعامل سيّاراتنا مثلاً، أن نخصص يوماً واحداً في السنة للفحص الشامل والترخيص، والتأكّد من صلاحيتنا للحياة وتجديد «ملكيّتنا» لعواطفنا وإنسانيتنا؟ هل نخسر شيئا؟! ماذا لو كانت هناك محطة «فحص وترخيص» لهذه السيارات البشرية، التي تقطع آلاف الكيلومترات، من الهموم والكبت والنسيان والتغييب.. سأتخيل الموقف: سأقف في طابور من البشر، آخُذُ ورقة مكتوباً عليها رقم، وأنتظر في حارة الفحص، أمامي موظّف، وتاجر، ورجل أعمال، وطالب، ومصّاص دماء، ومسؤول.. يوضع أحدهم على دولاب الهموم أثناء فحص «التقويم»، وعند نجاحه أو فشله، سيذهب إلى الفحص التالي، بالتأكيد سيخرج أحدهم باسماً، وآخر ممتعضاً كاظماً غيظه، وآخر أعاد الفحص 10 مرّات دون نتيجة، ورابع نجح من أول مرّة، وخامس لم يفحص، بل اكتفى بأن يتفرّج على المفحوصين ويضحك على كبواتهم، ورسوبهم، وخروجهم بقوائم تصليح طويلة.
التقيت موظفاً تسلم نتيجته بشماله، وخرج ممتعضاً، سألته بـ«حشريتي وفضولي»: ما النتيجة؟
الموظّف: «أبداً، قالوا عليك بتبديل الرأس، وتغيير وسائد لسانك المهترئة، وصيانة مضخّة الصبر لديك، وتصليح جيوبك، وطلاء عيوبك، وتكبير عقلك، وتصغير همومك، يجب أن تضبط عدّاد الزمن في حياتك، وأن تعمل ميزاناً لمصاريفك، وأن تقوم بتنجيد أفكارك، ونبّهني الفاحص إلى ضرورة إعادة تعبئة عواطفي بعواطفٍ جديدة، وضرورة تفقّد أحلامي عند كل 5000 كيلو إحباط، والتأكّد من كفاءة موزّع التفكير لديّ، واستبدال قوائمي الأربع، حفاظاً على السلامة العامّة، وبعض الأمور الضرورية الأخرى». ثم ركب عقله وغادر.
التقيت ـ بعدها ـ آخرين، وسألتهم السؤال ذاته، فقال التاجر: «فقط، طلبوا منّي تغيير الضمير». ومصاص الدماء قال: «أبداً، المطلوب أن أغير أنيابي وشفاهي، لأتمم بقية حياتي»، والمسؤول قال: «كل شيء سليم، وها هم وضعوا لي لاصقاً على ظهري، يؤكّد صلاحيتي مدى الحياة».
وعندما وصل دوري في الفحص، نظر إليّ الفاحص، وسألني: «ما الذي أتى بك إلى هنا؟ ما الذي جعلك تنتظر كل هذه المدّة، وتسأل كل هؤلاء الناس؟ فحراج «السكراب» هناك يا صديقي!
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه.