الكتابة حسب الطلب
في سبعينات القرن الماضي، طغت معادلة ثقافية/ أدبية غريبة على المشهد الثقافي العربي، مكونة من ثلاثة عناصر، الأول، كان متعلقاً بالمد الشيوعي العربي والعالمي الذي بلغ ذروته في السبعينات. والثاني كان متعلقاً بالرد الليبرالي على هذا المد الشيوعي.
كان كل من هو شيوعي أو مقرب من الشيوعيين العرب، يجري تسويقه عربياً كاتباً متميزاً، ويجري التعتيم على سواه. ومن هؤلاء من ضرب كتفه بكتف الشيوعيين على الرغم من انفصاله وابتعاده عنهم في ما بعد، فالشيوعيون لا ينسون العيش والملح. وهؤلاء الذين انفصلوا أو ابتعدوا اتجهوا إلى أفكار ليبرالية كانت بذورها مزروعة في العالم العربي منذ الأربعينات، وتنتظر بضع زخات من مطر لكي تنمو.
بين هؤلاء وهؤلاء ضاع الكثير من الكتاب والأدباء العرب، لمصلحة كتاب وأدباء احتجنا إلى عقود لنكتشف أنهم كانوا منفوخين بفعل التسويق الغبي ليس إلا، وبفعل ما سمّي لاحقاً بالفكر الليبرالي الأكثر غباءً.
أما الطرف الثالث في المعادلة فكان إعلام المؤسسة الفلسطينية المقاومة، وهي المؤسسة التي لجأ إليها كثير من أشباه الكتاب والمثقفين والأدباء، وكان لزاماً على إعلام المقاومة الفلسطينية أن يرفع من شأن هؤلاء حتى لو اخترع لهم تميزاً وهمياً وزائفاً.
تعرفنا في هذه المرحلة إلى زكريا تامر وحيدر حيدر، ولم نلتفت لكاتب مبدع في القصة العربية السورية اسمه «عبدالله عبد». والسبب هو أن عبدالله عبد كان مجرد موظف بسيط في شركة التبغ السورية، ولم يكن يتردد إلى العاصمة ولا اتحاد الكتاب العرب ولا وزارة الثقافة السورية، ولم يترك عمله البسيط والعادي لكي يذهب إلى بيروت وينطلق انطلاقة صاروخية في عالم الأدب. وفي هذه الأثناء برز حنا مينة كأبرز الروائيين العرب الملتزمين والمقاتلين برواياته، ولم نلتفت لأحمد يوسف داؤد مثلاً. وفي مصر كان علينا أن نشكر مجلة الآداب التي عرفتنا بسليمان فياض الذي اختفى في ما بعد.
ما أود قوله في هذه العجالة، هو أن الإعلام الحزبي يكون أحياناً أكثر خطراً من الإعلام الرسمي. فإذا كان الإعلام الرسمي مفهوم التوجه والأهداف والمرامي، فإن الإعلام الحزبي الذي يطرح نفسه تقدمياً وأممياً لا يصح له أن يتنازل عن القيم الجمالية ويضحي بها إكراماً لكاتب حزبي أو نصير للحزب. فالحزب أكبر من كاتب ومن شاعر ومثقف، وهو بالتضحية بالقيم الجمالية إنما يضع نفسه في خانة شبيهة بخانة الأنظمة الفاسدة التي يتصدى لها.
والكلام عن الحزب الشيوعي هو مجرد مثال ليس إلا، فالأحزاب العربية كلها لعبت اللعبة ذاتها. ولا ننسى كيف انقسم المشهد الثقافي في سورية بين اتحاد الكتاب العرب «البعثي» وبين وزارة الثقافة «الشيوعية»، وكيف ضاع من هم بين الجهتين.
وكما لكل نظام، كان لكل حزب وجهة نقادها الذين برزوا بالعصا وبالتكرار وأصبحوا نقاداً بالإكراه. والحال هذه تماماً تنطبق على الواقع الثقافي في مؤسسة المقاومة الفلسطينية، حيث تسابقت الفصائل على استقطاب بعض الكتاب والأدباء، وسارعت إلى تبنيهم والتطبيل والتزمير لهم، بصرف النظر عن أحقية ما يكتبون. والخلاصة كانت أدباً شابه الكثير من التشوه والادعاء والنفاق والرياء والبطولات الزائفة، إلى أن بدأ عهد النيولبرالية الذي كان كتابه وأدباؤه جاهزين ومستعدين للإقلاع، وقد وصلوا اليوم إلى مرحلة الآمر الناهي في وسائل الإعلام العربية كلها.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .