أبواب
النمساوي «محمد أسد»
بعض الحيوات الإنسانية تبدو وبسبب دسمها الحياتي والمعيشي كأنها تفيض حبراً يستدعي الكتابة والتوثيق، ذلك أن خصوبة أحداثها لا تقبل الإقصاء أو النسيان، بل تظل تُلح على صاحبها كي تُكتب وتدوّن، ولتكشف خبايا وتفاصيل مهمة عن حياة أحد الشخوص المهمين الذين يمتلكون تلك الحياة التي كان لها تأثير في سياسة دول، وفي تشكيل خرائط سياسية لتلك الدول.
وقد ظلت حياة النمساوي «ليوبولد فايس» تطل عليه كلما حاور أي شخصية فكرية التقى بها الى أن قال له أحد هؤلاء عليك أن تدون حياتك هذه، لأنها حياة تستحق الكتابة، ومن هنا بدأ كتاب السيرة الذاتية لبولوند بالتجلي والتمظهر الى أن كتب سيرته الحياتية «الطريق إلى مكة»، وقامت منشورات دار الجمل بطباعتها، بعد أن ترجمها للعربية «رفعت السيد علي».
وفي البداية وجبت الاشارة الى أن ليوبولد النمساوي نشأ وترعرع ضمن عائلة من أصل يهودي، لا بل إن جده لأبيه كان من الأحبار اليهود ومن المتعصبين للدين اليهودي، بينما نلحظ ان الفتى ليوبولد كان أقرب في طبيعته إلى التأمل العميق في الحضارات والأديان عموماً، وربما هذا ما جعله يدرس الفنون ومن ثم ينتقل الى عالم الصحافة، حيث العالم الشهي الذي يتقلب على صفيح ساخن في مطلع القرن العشرين.
وحال الفتى ليوبولد مثل حال العديد من الفتية الأوروبيين الذين سحرهم الشرق بألغازه الحضارية وبتلك المغنطة الحضارية التي تظل تميز الشرق، لكن الفتى ليوبولد كان أكثر انجذاباً بسحر الشرق وبسحر صحرائه اللاهبة التي اصطادته منذ المشهد الأول حينما رأى بالتحديد تلك البراءة البدوية في تعاملها مع الصحراء، وفي التحام البدوي مع هذه الصحراء ومواجهة أبسط الأسئلة بأبسط الأجوبة الواضحة وضوح الصحراء ذاتها.
في هذه الرمال الحضارية المتحركة يتغلغل حد الاختناق الفتى النمساوي، ويؤخذ بالبساطة العميقة التي تظل تميز رجال الصحراء وبحياتهم الرتيبة، ويسلم روحه لهذا النهج تماماً رامياً خلفه كل تعلات الحضارة المادية الغربية وكل أسئلتها المعقدة التي أربكت فلسفات كاملة، متسلحاً بالبساطة العميقة التي وهبتها له الصحراء. وفي النهاية يكتشف الفتى أن الإسلام بدأ ينير خطواته ويرشده الى الطريق الذاهبة الى روحه، وكان عليه أن يعلن إسلامه ويحمل اسمه الجديد الذي صار «محمد أسد».
ومحمد أسد الذي يذهب إلى مكة ليرينا كيف استطاع ابن سعود أن يؤسس لمملكته الواسعة الأرجاء ويروض القبائل المتمردة في أطراف الجزيرة.
والغريب بالفعل في كتاب محمد أسد «الطريق إلى مكة» أننا نكتشف أننا لا نقرأ سيرة ذاتية بل نقرأ عملاً أدبيأ استطاع بحق أن يصل الى مستوى الكتابة الفاعلة والمؤثرة بلغة أدبية بمنتهى الجمال.
وهو بهذا يؤرخ لمرحلة أُمية في التاريخ العربي، تحتاج منّا بالفعل إلى تأمل عميق في هذا الإهمال الحضاري لكتابة وتوثيق السيّر الذاتية لرجال عرب عبروا هذه المرحلة دون أن يدلّونا على خباياها.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .