المثقف والقداسة
مازالت طرائق الحوار بين المثقفين والمتعلمين العرب هي ذاتها، على الرغم من تراكم التجارب الصعبة والمريرة في بلادنا، وعلى الرغم من خبرتنا الراسخة في تغير الأمور وعدم ثباتها.
مازال المثقف العربي في رؤيته للوقائع الكبرى محكوماً بأيدلوجيته حيناً، وبقبليته حيناً آخر، وبعنصريته حيناً ثالثاً، وبعناده البدوي حيناً رابعاً.
لا يرغب المثقف العربي في رؤية الصورة كاملة، أو ربما لا يستطيع، لأن في ذلك كسراً لرؤيته ولقناعته، والمثقف العربي يظن أن اعترافه بالحقيقة يعني هزيمة شخصية أمام ابنته التي تعتبره بطلاً وعالماً لا يشق له غبار.
من الصعب على المثقف العربي أن يقول «لا أعرف»، حيث تعني هذه تهشيماً للصورة التي كرسها المجتمع له، وساعد هو نفسه على تظهيرها وترسيخها.
المثقف العربي مستعد للدفاع عن وجهة نظره وعن موقفه بالصراخ والشتائم وتحقير الآخر وتهميشه، وربما يصل الأمر إلى استخدام العنف الجسدي أحياناً. وكلما وجد أنه مأزوم أو محاصر بخيوط الحقيقة ازداد شراسة وعنفاً، وهو بذلك يؤكد ذهنية منغلقة على ذاتها، ويؤكد أن الوشائج بينه وبين ماضيه وحاضره القبليّ والآيديولوجي مازالت قوية ومتينة.
جوهر الأمر يتعين في تحول بعض الأفكار والمفاهيم والأشخاص والتجمعات أحياناً، كالحزب والمؤسسة، إلى رموز مقدسة في عقل المثقف العربي، والقداسة مكون رئيس في بنيتنا الاجتماعية العربية منذ ما قبل الإسلام، قداسة الانتماء للقبيلة والعشيرة مثلاً، قداسة الشجاعة أياً كان الموقف، قداسة الرأي واحترامه، قداسة المفهوم والقيمة «لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدمُ». وما إلى ذلك.
كان الشاعر العربي الصعلوك الذي يمتلك رؤية مغايرة لهيمنة القبيلة ولسطوتها، مضطراً لإحداث قطيعة موضوعية تواكب القطيعة المعرفية التي اتخذها من قبل. كان عليه أن يغادر القبيلة ويصبح العدو الأول لها. ومن المفارقات اليوم أن ألد أعداء الحزب هو الحزبي الذي خرج على الحزب نفسه، ذلك يشبه وضع عميل سري في مؤسسة أمنية يهرب إلى العدو، فيصبح هو العدو الأول بالنظر إلى خطورة ما يملكه من معلومات وأسرار لا تفكر المؤسسة في التفريط فيها.
أستذكر هذا كله وأنا أتابع هذا التمترس للمثقفين في الدفاع عن مواقفهم التي اتخذوها منذ اليوم الأول للحراك العربي، على الرغم من الخصوصيات التي طبعت كل حراك وميزته عن سواه، وعلى رغم ما يتكشف يومياً من حقائق وأمور يصعب إنكارها إلا عند من أخذته العزة بالإثم. أستغرب أن يصر المثقف العربي على موقفه وهدفه حتى لو تطلب هذا الموقف آلاف الضحايا الجدد، ومزيداً من الدمار والخراب والجروح والندوب التي تحتاج إلى عقود طويلة لمعالجة آثارها. أستغرب أن يغمض المثقف العربي عينيه عن المستقبل الذي ينتظرنا فيما لو استمرت حالنا على ما هي عليه كما يريد، أو ازدادت حدة وتفاقماً. أستغرب أن يشارك المثقف العربي في الترويج لثقافة العنف والقتل أياً كان مصدرها وسببها وطبيعتها ومآلاتها الكارثية. أستغرب أن ينحّي المثقف العربي أكبر قضية وأهمها في التاريخ العربي (القضية الفلسطينية) بحجة التفرغ لقضايا لم تكن تعنيه من قبل، بل لايزال إلى يومنا هذا متناقضاً في موقفه منها، كالحرية والديمقراطية.. يحق لنا أن نطالب المثقف العربي بمراجعة نفسه.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .