إسعاد الناس
لم يخطر في بالي أن أحداً - غير العلماء الربانيين - يفكر في إسعاد الناس، لما هو معلوم من أن كل واحد من الناس يهتم بإسعاد نفسه، إلا العلماء فإن همهم إسعاد غيرهم بما يبذلونه من معارف تضيء درب الحياة للناس مع الله ومع أنفسهم، وكل واحد يحمل هم نفسه لتحقيق السعادة التي ينشدها، ويسعى لذلك بفكره وجهده وحاله وماله. لا جرمَ فإن السعادة مطلب كل حي، والناس يتفاوتون في السعي إليها بحسب توفر الوسائل كما قالوا:
كل من في الوجود يطلب صيداً غير أن الشِّباك مختلفات
نعم لم يكن يخطر في بالي أن غير العلماء الربانيين يسعى لإسعاد الناس حتى أفدت من ومضات من فكرٍ لحامل راية إسعاد الناس صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد ـ حفظه الله ـ الذي استهل ومضاته النيرة المباركة بأن «وظيفة الحكومة هي تحقيق السعادة للمجتمع»، ثم أكد هذا المعنى جازماً «نعم عملنا اليومي هو تحقيق السعادة». هذا ملخص عمل الحكومة التي يسهر على إدارتها، فكم قرأتَ أخي القارئ مثل هذه المقولة عن أحد من الزعماء في عالم اليوم والأمس؟! لعلك لم تقرأ مثل ذلك، والسبب أن هذا الهمَّ عظيم، ولا يصدر إلا عن عظيم، ذي همة عالية، ونفس وثَّابة، ونية صالحة، ورغبة في الخير جامحة، وكم عد التاريخ من هؤلاء؟ لعله لم يعد أكثر من جمع القِلَّة، على رأسهم بانيا الدولة الحديثة زايد وراشد، طيب الله ثراهما، ثم خلفهما خليفة ومحمد ومن حمل همهما من إخوانهما النّسبيِّين، والحسبيِّين حكام الإمارات.
السعادة التي يطمح إليها هؤلاء ليست مطلباً سهلاً في أصله، لكنه سهل في قصده وفعله، إنها جعل الناس نفساً واحدة، تَجسدها الحاكم واشتمل عليها في جنباته، فهو يسعى لإسعاد هذه النفس لأنها في جوانحه، وهي جزء من حياته، فإن لم تَسعد يأسى لها، وإن سعدت فرح لها، هذا هو حال من يسعى لإسعاد الناس، وكأن الله تعالى قد جمع في فؤاده ما تفرق في عباده من حب السعادة لأنفسهم وليس على الله بمستنكَرٍ أن يجمع العالم في واحدِ.
الشيخ محمد لا يريد من حكومته إلا تحقيق هذا المنهج الذي تربى عليه واستقاه من رجال كبار خلد التاريخ ذكرهم لكونهم كانوا يحملون همَّ إسعاد الناس، فتعبوا، وصبروا، وبذلوا من أجلهم، وها هو يحمل هذا الهمَّ بعدهم كما كان رِدءاً لهم في حياتهم، وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسامُ، نعم إسعاد الناس هو عمل الحاكم الحكيم، والرائد العظيم، الذي تحمل هذه المسؤولية وهو يعلم عِظم حملها، ولا يرى نفسه مؤدياً لها إلا إذا حمل همَّ إسعادهم، فسعى لذلك بكُلِّيَّته، فكم يا ترى سيكون هذا محبوباً عند الله لسعيه في إسعاد عباده وفقرائه، وعند الناس لسعيه في إسعادهم، فهيأ لهم العدالة والأمن والتعليم والعمل والعيش الكريم والصحة والسكن والسمعة الرائدة، وفوق كل ذلك وحدة الصف ولحمة الكلمة! وماذا يريد الناس أكثر من ذلك؟ ولماذا يختلفون ويتقاتلون إلا عليها؟!
ولو أن الزعماء حملوا هذا الهمَّ لكانت ربوع أراضيهم لا تقل رخاء وسعادة عن دولة الإمارات، لكنهم لم يسعوا إلا لإسعاد أنفسهم، فذهبت السعادة عنهم، وكذلك الناس في تغالبهم.
كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه.