أبواب

تطور الموت

يوسف ضمرة

زمان، في مجتمعات القرى النائية، والمجاميع البشرية التي لم تكن تعرف الكمبيوتر والهاتف والفضائيات والأسمدة الكيماوية وهرمونات التنشيط الحيوانية والنباتية، كان الناس يحفظون تراتبية الموت قبل أن يموتوا. كانوا يعرفون وهم عائدون من جنازة ما، ذلك الشخص الذي سوف يحملونه في المرة المقبلة، وغالباً ما كانت توقعاتهم صحيحة، لا يعكرها سوى موت مفاجئ بلدغة أفعى، أو سقوط طفل ما في بئر نسي أحدهم أن يحكم إغلاقها.

في مجتمعات كهذه تكثر أوقات السأم، وتتاح للمرء أن يطلق العنان لخيالاته كي تحلق مثل النورس جوناثان، وتعود إليه بغنائم التحليق.

لكن الموت هذه الأيام، تطور مع تطور البشرية و«تحضرها»، بحيث أصبح خارجاً على التوقعات والتراتبيات التي عرفتها المجتمعات القديمة، وصار مثل سيارة مفخخة يصعب معرفتها من بين ملايين المركبات السيارة في شوارع المدن، ويصعب تحديد مكان انفجارها وجنسية قتلاها وتوقيت موتهم، وما إذا كانوا سيموتون بأناقة أو كاملي الهيئات والسمات أم يموتون منقوصين من أذرع وسيقان ورؤوس!

نتذكر جيداً أن هنتنغتون أصدر كتابه المثير للسجال «صراع الحضارات» مع نهاية الحرب الباردة، وأكد فيه أن الصراعات المقبلة في العالم سوف تأخذ طابعاً حضارياً، وحدد الحضارات الشرقية كالإسلام طرفاً رئيساً في الصراع. في تلك المرحلة كان المحافظون الجدد في الولايات المتحدة الأميركية ومنظّروهم السياسيون وصلوا إلى الحكم بعد أن أسست مرحلة ريغان وتاتشر لعودة اللبرالية في ثوبها الجديد في العالم. يومها لم يفكر أحد في أن الإسلام مسكون بجروح وندوب لم يشف منها تاريخياً وعقائدياً كما كنا نظن. فقرأنا الحركات الإسلامية المختلفة والتيارات الثقافية والفكرية التي صاحبت ظهور الدولة الإسلامية، قراءة باحث تمكن من خلق مسافة بينه وبين هذا التاريخ، لا لكي يتخلى عنه، وإنما لكي يتمتع ببصيرة نقدية تؤهله للفرز والبحث بموضوعية، تسهم في إعادة الاعتبار للتراث العربي الإسلامي من دون أن تكون الجروح والندوب مرشحة للفتح والالتهاب في القراءات الجديدة. لكن، وعلى الجبهة الأخرى، كان هنالك من تفحص تلك الجروح والندوب الثقافية والفكرية، وتمكن من اكتشاف آليات لإعادة إنتاجها، على الرغم من مرور ألف سنة على نزفها الأول.

وإذا كانت الصراعات في العالم كله موبوءة ببعد عقائدي ديني في مرحلة من مراحل اشتباكها مع التاريخ، إلا أنها في الغرب لم تعد قادرة على إعادة إنتاج نفسها، حتى لو حشد لها المفكرون والمثقفون عشرات آلاف المجلدات والفضائيات. فلم يعد ممكناً الكلام في التثليث والآريوسية مثلاً. ولم يعد ممكناً الحديث في قدسية مريم من عدمها، على الرغم من وجود هذه العقائد بيننا، وإقامة الشعائر الدينية التي تمثلها أو تعبر عنها.

والسؤال القوي الذي يظهر فجأة هو: لماذا هذا الكم الهائل من صور الرعب والتفنن في القتل والتعذيب، التي تبث يومياً على مواقع التواصل الاجتماعي وموقع الـ«يوتيوب»؟ من المسؤول عن نشر هذه الصور وما هو الهدف الحقيقي منها؟ وقبل أن يجيب أحد علينا أن نفكر في الخاسر الأكبر من وراء هذه الصور المرعبة، وهو الإسلام. فهل أراد أحد ما في إدارات صناعة القرار الغربي تشويه الصورة للمذاهب الإسلامية كلها، لكي يكون قادراً على الوقوف في وجه خطرها المقبل على الحضارة الغربية؟ ربما يكون علينا أن نفكر في الأمر على هذا النحو!

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر