أيقونات ضائعة
«ويكون عام
تتساقط الأقراط من آذان عذراوات مصر
ويكون جوع».
بهذه الرؤية ختم أمل دنقل قصيدته «حديث خاص مع أبي موسى الأشعري» المكتوبة في عام 1967، أي قبل 45 سنة ونيف. وحين يتساءل المرء: لماذا أبو موسى الأشعري تحديداً، فإن التاريخ يعيدنا إلى موقفه في التحكيم، واتكائه على النوايا الحسنة مقابل اعتماد ابن العاص على الدهاء! وكأنه يقول إن النوايا الحسنة وحدها لا تقود إلى الجنة. وأمل دنقل ليس نبياً بالطبع، ولكنه شاعر خرج من بين الناس وتحسس آلامهم وهواجسهم وأحلامهم ومخاوفهم وتطلعاتهم، فكانت هذه الرؤية المرعبة. مرعبة لأنها تتحقق كما لو أن أمل دنقل كان يرى بقلبه لا بعينيه. أمل دنقل عاش هزيمة1967، وذاق مرارة التشريد والمعاناة. وهو في قصائده يمتلك رؤية كابوسية لأنه ابن مصر، ولأنه كان يدرك أن مسار مصر لم يكن صحيحاً، ما يعني أن النهايات المأساوية قادمة بالضرورة. هو يستغرب في قصيدته «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» إثر الهزيمة مباشرة، كيف تسير الأمور على الناس كأن شيئاً لم يكن.
«أسأل يا زرقاء
عن وقفتي العزلاء بين السيف والجدار
عن صرخة المرأة بين السبي والفرار
ودون أن يسقط لحمي.. من غبار التربة المدنسة».
تقودنا رؤية أمل دنقل الثاقبة إلى دور الأدب والفن في الحياة. وعلينا أن ننتبه مسبقاً إلى أن الفنون وُجدت في بداياتها ربما بدافعين متلازمين كما تقول رسومات الكهوف الضاربة في جذور التاريخ.. تزجية الوقت من جهة، وتحفيز همة الجماعة لمقاومة الطبيعة في هجماتها الشرسة، وتسهيل الحصول على قوت الناس. أي إن الوظيفة والمتعة متلازمتان ومترابطتان. ولا يصح لأحد أن يدعي أن على الفنون أن تفعل كذا وكذا، فنكون بذلك كمن يضع العربة أمام الحصان. إن تحذيرات أمل دنقل من عام تتساقط فيه الأقراط من آذان عذراوات مصر، ليست مجرد رمية نرد ألقاها وهو جالس في مقهى ذات يوم، وإنما هي حصيلة رؤيته للتفاعلات الاجتماعية والثقافية والسياسية في مصر، بوصفه مواطناً مصرياً عربياً ينتمي لشعب مكلوم ومنهوب ومستلب الإرادة. وقد سبق له أن أعرب في منتصف السبعينات في قصيدته الشهيرة «لا تصالح» عن مخاوفه وعن اعتزازه بكرامته كمصري وكعربي، يرغب في استرداد ما فقد منها وما انتهكه الأعداء في الداخل والخارج. ويقيناً أن أمل دنقل لو شهد ما تشهده مصر اليوم، ومنذ سنتين، لتمنى العودة إلى قبره. فقد تساقطت الأقراط من آذان عذراوات مصر، وحل جوع. والسبب كما أشار هو نفسه إليه: أسأل يا زرقاء. عن وقفتي العزلاء بين السيف والجدار. فما من أمة في التاريخ استبيحت كرامتها وسكتت ولبست رداء الخنوع، إلا وكان هذا نصيبها. وإلا، ماذا كنا نتوقع من شعب يُحشر بين سيف العدو وجدار الداخل وهو أعزل؟ إما أن يموت بالسيف أو يهرسه الجدار.. تلك هي النتيجة الحتمية التي وصلنا إليها. مؤلم ما يحدث في مصر، أم الدنيا وأم العروبة. والأخطر من الألم أنه مازال قابلاً لمزيد من الانهيارات التي لا نتمناها لمصر ولشعبها. وكل ما نرجوه هو أن تنتبهوا قليلاً لبعض ما يكتبه الشعراء والأدباء بيننا، فلربما عثرنا على أيقونة هنا أو هناك.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .