فقه القيام
شهر رمضان يسمى شهر القيام ؛ لحث الشارع الأكيد على قيامه، كما ورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه»، ومعنى إيمانا؛ تصديقا بوعده، واحتسابا؛ أي ابتغاء الأجر منه سبحانه، وهي مغفرة خاصة غير مقترنة بمغفرة الصيام، التي وردت في حدثيهما أيضا «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه»، فكل منهما كفيل بأن يحقق المرء هذه المغفرة، وكلاهما يدل على العلاقة المباشرة بين الصيام والقيام، كما ورد «من صام رمضان وقامه إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه»، لذلك فإن المسلمين يتبارون في القيام كما يبادرون للصيام، لأنه الشهر الوحيد الذي يسن فيه القيام جماعة ويكون شعيرة من شعائر الإسلام وخصوصية من خصائص شهر رمضان.
وقد كان السلف الصالح أشد حرصا من كثير من المسلمين اليوم على هذه الشعيرة، فكانوا يقومون قياما يعجز عنه جُل أهل العصر، كما روى مالك في الموطأ قال: أمر عمر بن الخطاب أبي بن كعب وتميما الداري - رضي الله عنهم أجمعين- أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة قال: وقد «كان القارئ يقرأ بالمئين، حتى كنا نعتمد على العُصي من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر»، أي ارتفاعه؛ يفعلون ذلك تلذذا بالقرآن وتدبرا له، وطمعا في أجر القيام، وأكثر ما يكون أجره مع طول القيام، لما روى جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصلاة طول القنوت».
كذلكم كان قيام من يصلي إحدى عشرة ركعة، أما من كان يخفف في صلاته فإنه لم يكن يقل عن عشرين ركعة، كما روى ابن عباس رضي الله عنه قال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي في رمضان عشرين ركعة والوتر»، وهو الذي استقر عليه عمل الأمة سلفا وخلفا في الأمصار والقرى، كما قرره الإمام الترمذي، إذ قال «واختلف أهل العلم في قيام رمضان، فرأى بعضهم أن يصلي إحدى وأربعين ركعة مع الوتر، وهو قول أهل المدينة، والعمل على هذا عندهم بالمدينة، وأكثر أهل العلم على ما روي عن عمر، وعلي، وغيرهما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عشرين ركعة، وهو قول الثوري، وابن المبارك، والشافعي»، وقال الشافعي: «وهكذا أدركت ببلدنا بمكة يصلون عشرين ركعة».
وهذا الذي استقر عليه العمل سلفا قد كاد يترك خلفا، فما الذي حمل الناس على ذلك وهم في شهر التنافس في الخيرات والقُرُبات، وأجل ذلك القيام بين يدي رب الأرضين والسماوات، تبتلا وتخشعا، التماسا لليلة القدر، واتباعا لهدي السلف؟! إن هذا التراجع يعتبر فتورا عن الطاعة، وتقاعسا عن فعل الخير والتنافس فيه، فكان الأولى القيام بما ثبت من الطول، أو العشرين مع ختم القرآن.
كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه.