أبواب
زوربا مثلاً
من يرى أشكال الحياة وأنماطها ثابتة، فهو كمن يشك في كروية الأرض ودورانها.
أقول هذا لمن يعتقد أن للفنون والآداب أشكالا وأنماطا ثابتة، وقوانين مقدسة لا ينبغي لأحد الخروج عليها، فهنالك من لايزال يريد من الفنون والآداب أن تكتب لتؤدي دورا وظيفيا معينا في مرحلة ما، أن تتحول القصائد والقصص واللوحات الفنية إلى بيانات سياسية وشعارات خطابية يستخدمها المتظاهرون والثوريون مثلا في الميادين، ربما يحدث ذلك أحيانا، وهو ليس خطأ بطبيعة الحال، فهنالك أنماط فنية عدة في أي مشهد ثقافي/ اجتماعي. وعلى سبيل المثال فإن قصائد الشاعر أحمد فؤاد نجم المغناة على عود الشيخ إمام، تصلح جدا لمناسبات كهذه، وقد استعادها ميدان التحرير بعنفوان وقوة، ومنحها بعدا جماليا جديدا عندما أصبحت خبزا يوميا في الثورة، ولكن هذا لا يعني أن نطالب الشعراء الآخرين بكتابة قصائد كقصائد أحمد فؤاد نجم، لأن ذلك يشبه أن نقوم بقطع أشجارنا كلها والإبقاء على فصيلة واحدة من الأشجار، وإذا كان يوسف إدريس وزكريا تامر وغسان كنفاني تمكنوا كلّ على حدة من القفز بالقصة القصيرة العربية أشواطا متقدمة، فإن ذلك لا يعني أن يصطف القصاصون العرب لتقليد هؤلاء والكتابة مثلما كتبوا، وكذلك الحال في رواية نجيب محفوظ وحنا مينه وعبد الرحمن منيف وآخرين. وقد فهم جيل الستينات في مصر هذه المعادلة جيدا، فخرج علينا شعراء مختلفون وروائيون مختلفون وقصاصون مختلفون عن سابقيهم، وتمكنوا من حفر أسمائهم بقوة في الصخر.
هل قيل إن الفنون بدأت مع الإنسان البدائي على جدران الكهوف؟ حسنا إذاً، فاللوحات الفنية تعرض الآن في صالات فاخرة، يرتادها كبار التجار والرأسماليين، وربما يشتري أحدهم «بورتريه» لغيفارا بملايين الدولارات، لا حبا بغيفارا ولا بثورته ولا بشكله، وإنما حبا بالتشكيل الجمالي الذي رآه، أو تميزا عن سواه من الأثرياء.
هذا التشبث الذي نراه بين يوم وآخر بالأشكال التقليدية للفن والأدب، ليس سوى حواجز وعقبات في طريق أجيال جديدة، على عاتقها دائما تقع مهمة تطوير الفنون والآداب، والانتقال بها من شكل إلى آخر، ومن مرحلة إلى أخرى، وطالما ظل بيننا من يسبغ على الأشكال التقليدية مسحة من القداسة، فإن ذلك يعني تأخيرا وإعاقة في مسيرة الفن والأدب.
الجيل الشاب هو من يمتلك المغامرة.. المقدرة على ارتياد آفاق لم يصل إلىها سابقوه.. المقدرة على التفكير في الفن والأدب من منظور مختلف غير مسبوق، وهذا الجيل يحتاج إلى دعم لكي يتمكن من اجتراح مغامرته كيفما شاء، وفي أسوأ الأحوال علينا ألا نقمعه وألا نقوم بوضع العصي في دواليب مغامرته المقبلة، التي قد تكشف لنا مساحات جمالية مذهلة.
فقط دعوا وظيفة الفن ودوره جانبا، لا لأن الفن والأدب بلا دور، وإنما فقط لأن الدور كامن في الإبداع الجمالي نفسه. لقد تحولت موسيقى زوربا إلى نشيد وطني لليونانيين، لأن اليونانيين وجدوا فيها شيئا منهم ومن روحهم الجمعية، على الرغم من أن هذه الموسيقى جرى تأليفها لفيلم سينمائي في المقام الأول، ربما استلهم تيودوراكيس تراثا يونانيا، لكن هذا التراث لم يكن يحمل القوة التأثيرية التي تحملها موسيقى زوربا الحديثة.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .