مزاح.. ورماح
عذابي كــ «عزّابي»
مع الغروب، وعندما تفترش المائدة مستطيل الجلسة وقت الإفطار، وأفتح يدي للدعاء وحولي أمي وأطفالي، لا ينتصب أمام عينيّ، ولا «يقف في حلقي» سوى بعض الطلاب المغتربين عن ذويهم للدراسة، أو «العزّابية» الذين يعملون في مناطق نائية، أو أرباب الأسر المغتربين عن أسرهم في سبيل لقمة العيش، فليس أصعب من رمضان سوى رمضان «الوحدة» ورمضان «الغربة»، حيث تصبح اللقمة مرة كجرعة علاج، وتصبح شربة الماء حادة كسكّين.
لقد جرّبتها طويلاً، وجربت الجلوس على طاولة، يشاركني فيها أربعة غرباء، يمزّق وحدتي صليل ملاعقهم في صحون الزجاج.
عندما كنت «عزّابياً»، وأكتسي وشاح الغربة والوحدة، جرّبت المطاعم الشعبية جميعها، ثم ارتقيت إلى المطاعم ذات النجمتين والثلاث، حتى مللت طريقة الجلوس وأسلوب تقديم الوجبة، وحتى ابتسامة النادل البلاستيكية، التي كان يرميها عليّ من غير مشاعر، تماماً كمزهرية الورد الاصطناعي، التي تتوسط الطاولة.. حتى قررت أخيراً المكوث في البيت، وصنع إفطاري بيدي، ولو كان كسرة خبز. لا أدري أي سوء طالعٍ جعلني أطبخ «فاصولياء بيضا»، وأرزاً في ذلك اليوم؟! عند اقتراب الأذان سكبت الطنجرتين، فاكتشفت أن كمية الفاصولياء تكفي «سرية من الجيش»، بينما صحن الأرز بالكاد يكفيني، أفطرت وحمدت الله.. في اليوم التالي حاولت الموازنة، فقمت بطبخ أرزّ لأتخلّص من كمية الفاصولياء الزائدة من يوم أمس، طبعاً الأرز المطبوخ لليوم الثاني كان كفيلاً بأن يكفي نصف سكان «دارفور»، فنفدت الفاصولياء، بينما زادت كميات مهولة من الأرزّ.. في اليوم الثالث طبخت فاصولياء، للتخلص من الأرز الزائد في اليوم الثاني، وتكررّت العملية نفسها، إلى أن استقلت وعدت إلى الأردن، بينما معادلة الفاصولياء والأرز لم تنتهِ في المطبخ بعد!
على أية حال يبقى المطبخ واحداً من أهم عذابات «العزّاب»، لأن الطبخ مزاج وتجانس ومقادير ونَفَس.. فمن أين يأتي الوحيد بــ«مزاجٍ»، والأعزب بــ«تجانس»، والغريب «بنفس»؟!
****
كلما تزاحم الصغار على مائدتي الضيقة، تذكّرت احتكاك ملاعق الغرباء في صحونهم، وتذكرت احتكاك الأشواق في مخيلاتهم، ودعوت من قلبي أن يعود كل غريب إلى أهله عن قريب... قولوا يا رب!!
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه.