مزاح.. ورماح

من نافذة الطائرة

أحمد حسن الزعبي

أواخر رمضان.. لا صوت يعلو على صوت عجلات الحقائب فوق أرضيات المطارات، مسافرون مندفعون نحو بوابات الدخول، طوابير على الجوازات، عائلات تلملم أغراضها وتعدّ الأفراد مع كل نقطة عبور، وين حمود، وين عبود، وين مريم، قراءة صامتة في عيني موظف التدقيق وموظف الحجوزات وموظف التفتيش الأخير.. وما إن يبتلع قشاط التوزين «الحقائب الثقيلة» والمعلّمة في الغالب بعلامة جهة اليد.. حتى يرتاح المسافر، ويبدأ يتصرّف بطريقة أكثر سكينة ووقاراً.

للسفر رائحة!! لا يشتمها إلا من دبغ يوماً في دمع الغيوم الشاهقات، أو نام ليلة  ترانزيت على كراسي «الستيل» بانتظار طائرته الموعودة.

المكوث في صالة الانتظار قبيل الدخول إلى الطائرة يعادل شهور الغربة الطويلة.. فيه ترى وتقرأ روايات العائدين إلى مدنهم وعائلاتهم من خلال حركات أيديهم، واستدارة أعينهم، ومن خلال عبثهم في أجهزتهم المتنقلة كل لحظة للتأكد من تسلّم رسالة أو إرسال رسالة تفيد بقرب الإقلاع. وعندما يفتح الباب للدخول تصبح الطائرة وطناً متنقلاً.. يجلس المسافر في «شقفة» وطنه.. يشد حزام الشوق على خصره.. ويبدأ يراقب آخر من يراه في مدرج المطار.

سيارة خدمات، عليها وشاح أصفر تمر تحت الطائرة، وأخرى تنزل تحت طائرة شارفت على الإقلاع ، عامل آسيوي يرتدي درعاً فسفورية، يقوم بعمل عاجل في الجهة المقابلة، الوقت أمام نافذة الطائرة أيضاَ طويل، فيه تكتشف تشققات في أرضية المدرج، وترى حرارة الشمس اللاهبة وهي تغلي فوق بناء «المغادرين»، سيارة «ترولي»  تحمل حقائب وحقائق وأحلام  المسافرين جميعاً تأوي بحنو تحت الطائرة كما يحن صغير البجع إلى حضن أمه. المسافرون يتوافدون في ممر الطائرة الضيق.. الحقائب اليدوية توضع في الرفوف العلوية، والمضيفات يقمن بالتأكد من سلامة الوضعية.. المتاح الآن قليل جداً من نافذة الطائرة، فقط بعض سيارات خدمات المطار، وبعض الزوايا المشغولة بالصمت.. تدقق النظر قليلاً بجناح الطائرة، فتكتشف للمرة الأولى أنه يحمل «تباشيماً» وبراغي ضخمة وأرقاماً وأحرفاً بالإنجليزية لا يمكن لأحد أن يفسرها إلا من عمل بصيانة الطائرات، تسمع أصوات طاقم الطائرة كأنها وشوشات عابرة.. أصوات تنبيه لحزام الأمان، ثم مشي بطيء لهذا الكائن السماوي.. تتسارع.. تتسارع.. تتسارع.. والقلب يتسارع.. وعندما تقرر الإفلات من المدرج تشعر بحزن غريب على المكان وعلى «الروتين» الذي تركته مغطى بشراشف بيضاء هناك.. تصغر المباني وتتضاءل البيوت.. تصبح الشوارع مجرد عروق في ذراع الدولة.. تصعد الطائرة العالية، فتزفّها الغيوم بتناتيف بيضاء مثل ورق الورد، فيغطي البياض مستطيل النافذة الضيق ويغطي الجفن المثقل بالحلم والشوق والسفر.

 ahmedalzoubi@hotmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

 

 



 


 
 

تويتر