الساعة
تقول أغنية روسية شهيرة: استطعتُ أن أوقف عقارب الساعة/ لكني لم أتمكن من إيقاف الزمن!
فمن يوقف الزمن إذاً؟ ومن يسرّع جريانه أو يبطئه؟
الساعة تجلٍّ لوهم مبتكر، يقضي بتقسيم الحياة وتجزئتها.. بمحاولة الإمساك بالزمن، والقبض عليه. لكن الإنسان وهو يفعل ذلك، ينسى كما يبدو أن الزمن نهر يتدفق في النفس البشرية، وأن هذا الدفق لا يقاس بدقات الساعة، بندولية كانت أم رقمية! فهل ساعة المنفى هي ذاتها ساعة الاستقرار مثلاً؟ وهل ساعة الانتظار كساعة النوم؟ وهل ساعة السجين كساعة العاشق؟
هذه الأسئلة وغيرها تحيلنا بالضرورة إلى مفهوم الزمن..
يقول هيدغر إن التوالي الزمني ليس أفقياً بل عمودياً.. فالماضي ليس هو ما كان، والحاضر ليس هو الآن، والمستقبل ليس هو ما لم يأت بعد! ويضيف شارحاً إن التزمين نهائي. وهو كذلك لأن المستقبل نهائي كونه مرتبطاً بالموت، وهو ما يعني أن الزمن يبدأ من المستقبل. وهو يبدأ من المستقبل لأن المستقبل مجهول ومنتظَر. أي أن الزمن ليس متوالية رياضية يمكن أن نقيسها أو نتعامل معها رقمياً. إنه وجود قائم له قوانينه وأنظمته التي لا ندركها تماماً!
ولأننا معنيون بالمستقبل، فإن التزمين مرتبط بالانتظار. والانتظار لا يقاس بالأرقام ولا يحصى بالدقات، بمقدار ما هو إعدام للحاضر. وهذا الإعدام ذاته ينطوي على إعدام للمستقبل نفسه. فالساعة في هذه الحال مشنقة الحاضر والمستقبل لا الماضي فقط. فهل هذا الإعدام شاهد حقيقي على رغبتنا في توكيد العدم، طالما كان هنالك وجود وماهية؟ وهل هذه الرغبة قائمة على إدراكنا بأن الموت هو العدم، على الرغم من كل التفسيرات والشروحات الدينية المطلقة؟ وهل ابتكرنا الساعة كي نحدد لحظة الموت؟
إن نظرة عميقة متبصرة إلى ذواتنا تحيلنا إلى الزمن فينا.. إلى الوقت الذي مضى، وإلى الوقت الذي نحن فيه، وإلى الوقت الذي ينتظرنا. وما الساعة إلا تحايل بشري زائف، يوهمنا بأننا قادرون على قياس ما مر من أعمارنا، بينما هي في الحقيقة تخبرنا بما تبقى من الوقت، وهذا ما يجعلنا مرتبطين بها إلى هذا الحد، منذ عهد الإنسان الأول، فلم تكن المرأة القديمة معنية بتعداد الأيام والساعات بمقدار انتباهها لدورة القمر! ولم تكن الكائنات الأخرى تأبه مثلنا لهذه المسألة، وظلت وفيةً لساعتها البيولوجية.
لا أعرف لماذا أطلقنا على ابتكارنا البشري هذا مصطلح (الساعة)! هل هنالك ثمة ارتباط ما بالساعة الدينية، حيث الساعة آتية لا ريب فيها؟
يحيلنا هذا الأمر إلى الزمن في الديانات السماوية، وإلى مفهوم الزمن في الفلسفات المتنوعة.. القديمة منها والحديثة. فقد امتلأت الديانات بإشارات هائلة للزمن، ولكن كل واحدة من تلك الإشارات كانت ومازالت تحيل إلى مفهوم مختلف عن الآخر.. فالدهر غير الأبد، والأجل غير الساعة، والوقت غير الزمن، وهو ما يحتاج إلى تفصيلات أكثر عمقاً وتبصراً مما نحن فيه.
ولا يمكن لنا أن نسمع أو نقرأ كلمة الساعة، من دون أن نفكر في الزمن.. في بعض مظاهره على الأقل. وهو ما يعني أن الساعة جرس خارجي دائم الرنين، وكأن هذا الرنين صدى لرنين الزمن في أعماقنا.. هذا الذي يمضي ويأتي ولا يستقر لحظة واحدة، ولو طائشة!
damra1953@yahoo.com
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .