شو كاتب اليوم؟
الكتّاب والصحافيون في المهجر يستقبلون يومهم بشكل مختلف، لأن مهنتهم بحاجة إلى أن يعيشوا بشكل مختلف. هم متفرغون تماماً لكي يفكّروا جيداً، ويتابعوا الأحداث العالمية جيداً، وليعلّقوا على مقالاتهم وآرائهم لمحطات «عالمية» وإذاعات مشهورة، مثل «بي بي سي»، «مونتكارلو»، «سي إن إن»، بمنتهى الثقة والاتزان والإلمام، لذا فإن هؤلاء في الغالب يستيقظون متأخرين، يستحمون بالماء الدافئ والشامبو زاخر الرغوة، يحلقون ذقونهم كل صباح بشفرات ثلاثية حادة. وقبل أن يكملوا لبس «روب» الاستحمام، ويمتص القطن رطوبة أجسادهم المنتعشة، يجدون كل الصحف المحلية والعالمية تندس تحت الباب بهدوء، وفنجان القهوة للتو وضعته خادمة مكتنزة على طاولة أنيقة في شرفة مطلّة، بمعنى آخر كل شيء حولهم يحفّزهم على «الكتابة» والتحليل و«الحكي المليح».
**
أنا كذلك، أستقبل يومي بشكل مختلف، لأن مهنتي بحاجة إلى أن أعيش بشكل مختلف، لكن يبقى وجه التنافر بيني وبينهم أنّي أصحو على رنة المنبه في تمام السابعة صباحاً، وأول ما ينقشع غباش النعاس عن عيني أشاهد مجسماً أسطوانياً ضخماً مرسوماً عليه صورة بقرة مبتسمة ومرعى باهت، أفرك عيني جيداً فأتيقن أن الذي أمامي هو مجرّد دلو «لبن رايب فارغ»، وقربه دينار و40 قرشاً (نحو سبعة دراهم)، ثم أتذكّر لاحقاً أن التنبيه أصلاً من أجل الدلو الفارغ لا أكثر. بالكاد أغسل وجهي، وأمشّط اللين المطيع من خصل شعري، وأخرج ببيجامة و«شبشب» إلى الملأ، ملتحقاً بركب الراكضين إلى المخبز والملبنة.
يبادرني صاحب الفرّان بالتحية، ويسألني: شو كاتب اليوم؟ فأعتقد أنه مهتم للغاية بما أكتب، لكن قبل أن أتذكر موضوع المقال، يدير ظهره إلى بيت النار ويطلب من الصبي أن «يقطع» العجين جيداً، فأحاول أن أعيده إلى سؤاله بعد أن تذكّرت فكرة المقال، «فيطنّشني» ثانية ويقول: «خذ كيس من عندك ودير بالك من السيارات».
أتوجّه بعدها إلى صاحب الكافتيريا الذي يطالبني منذ 10 سنوات بأن أكتب عن «شوال الحمّص»، وأنا أتهرّب منه بحجّة أن سياسة الصحيفة لا تسمح لي بأن أكتب عن التسعير، خصوصاً «الحمّص».
أفطر سريعاً، وأكمل مارثون العيش، أدخل إلى الملحمة، فيرحبّ بي اللحام أيما ترحيب ويسألني هو الآخر: شو كاتب اليوم؟ وما إن أشرع في الإجابة «من كل عقلي»، شارحاً له: كيف مهّدت للموضوع بطريقة ماكرة، فيقاطعني دون اهتمام ويسألني: «مكعبات ولاّ ع الناعمة»، فأجيبه سريعاً: «نص هيك ونص هيك»، ثم أحاول اللحاق في الإجابة المنقطعة، لأجده يصفع ابنه الأصغر صفعة مدوّية، لأنه رمى عظمةً عليها «غرام» واحد من اللحم في «دلو الزبالة»، عندها أفقد قدرتي على الكلام تضامناً مع ذلك الصبي الذي فقد قدرته على السمع.
في آخر النهار أنفض جيوبي وما علق بها من «عتالة» الصباح، لأخرج «قرن» فاصوليا من جيبة البنطال، «فجلة» من الشبّاح، وضمّة نعنع من جيبة الجاكيت الأمامية، وها أنا أكتب مقالي اليومي وأمامي بقايا فنجان قهوة بارد، على شرفة مطلّة على «محل دواجن».
نحن متفرغون للعيش فقط.
ahmedalzoubi@hotmail.com
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .