أبواب
خيانات الأدباء
مدخل: الأدب ليس مرآة ينظر فيها الأديب إلى صورته، بل نافذة ينظر من خلالها إلى العالم حوله.
***
كنت في سنين خلت أعتقد أن كلمات الأديب يجب أن تكون نسخة كربونية عن أفكاره ومبادئه، وكنت أتصور أنّ الكتابة الشريفة تعني أن الكاتب يضع الشّرف في جيب قميصه العلوي، بمحاذاة قلبه تمامًا.
وكنت غير قادر على التمييز، في ما أقرأه، بين الجمال المعبّر عنه في الشعر والأدب، وجمال ذلك الشاعر والأديب. ولا أفهم، ولا أريد أن أفهم، كيف يمكن ألا يكون الجمالان متطابقين. ولا أرحم، ولا أريد أن أرحم، جمال الشاعر إن هو خان جمال الشعر؛ لأنني كنت واثقًا أن ما يخلقه الشاعر، لا يخلقه من فراغ، بل يتلصص عليه من خلف الستائر - رغماً عنها - ويشي به شعراً.
لذلك كانت صدمتي كبيرة عندما اكتشفت أن شاعراً جميلاً كمحمود درويش متورط، أو يشتبه في تورطه، في اغتيال صديقه رسام الكاريكاتير ناجي العلي. في كتاب (أكله الذئب: السيرة الفنية لناجي العلي) يكشف شاكر النابلسي تفاصيل وخيوط المؤامرة التي أدت إلى اغتيال أشهر رسامي الكاريكاتير العرب على يد مجهول في لندن، ويوجه إصبع اتّهام إلى ياسر عرفات، وإصبع إتّهام آخر إلى محمود درويش. فالعلي هو الشهيد الفلسطيني الوحيد الذي لم يرثه درويش في أشعاره، ولم يؤبّنه في مجلته الثقافية «الكرمل»، ولم يأت على ذكر استشهاده قط، وهو مدّاح الشهداء الفلسطينيين، وذلك لأن الديكتاتور «قائد درويش وصديقه» كان هو القاتل، بحسب ما أورده النابلسي من أدلة!
وبعد أن أفقت من الصدمة، قررت ألا أرتبط بعلاقة مع أي أديب قبل أن أتعرف على مدى جمال/بشاعة علاقاته بمن حوله، فبدأت أقرأ عن الأديب قبل أن أقرأ له، وما يقال عنه قبل ما يقوله عن نفسه. وهنا واجهتني مشكلة أخرى، فالحياة الشخصية للأدباء العرب غالبًا ما تكون مطمورة في الجانب المظلم من القمر، وبالتالي لا يمكن معرفة أي تفاصيل عن حياتهم إلا بالمقدار الذي يكشفون عنه في بطون كتبهم، وهذه التفاصيل بدورها ليست سوى عنتريات معروضة في الجانب المضيء من القمر!
ويبدو أن خيانات المثقفين لأصدقائهم ليست حكراً على مثقفي الشرق فقط، فها هو ميلان كونديرا، أعظم أدباء التشيك بعد كافكا، يشي بأحد أصدقائه ويتهمه بالتجسس، وفقاً لوثيقة نشرها المعهد التشيكي لأبحاث الأنظمة الشموليّة. وبحسب الوثيقة الملعونة؛ فإن كونديرا تسبب بسجن صديقه لمدة 12 عاماً، مع إجباره على العمل في منجم لليورانيوم!
رغم بشاعة ما ارتكبه محمود درويش وميلان كونديرا، إلا أن كلاً منهما كفر عن خطئه/خطيئته بطريقته الخاصة، فقد أفنى درويش ما تبقى من عمره في الكتابة ضد الظلم والظلام، أما ميلان كونديرا فيمكن اعتبار روايته «كائن لا تُحتمل خفته» بمثابة التوبة عما اقترفه، فهي ليست سوى نص مكرّس لهجاء الوشاية ومشتقاتها كافة، وقد دفع - لاحقًا - ثمن ذلك باهظاً، ففقد كرسيه الوظيفي في الجامعة، ومنعت أعماله من التداول، وسُحبت منه الجنسية التشيكية.
***
مخرج: قبل أن نلتفت للبحث عن صوت المفكر، صوت الأديب، صوت الشاعر، وصوت المبدع.. فلنبحث عن صوت الإنسان!
al-marzooqi@hotmail.com
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .