5 دقائق

الهجرة المتجددة

د. أحمد بن عبدالعزيز الحداد

الهجرة النبوية ليست كهجرة الناس اليوم لأغراض مادية أو اجتماعية، يمكن تحقيقها بغير هجرة، إنها هجرة لله تعالى، كتبها عليه كما كتبها على أبيه إبراهيم وبعض إخوانه النبيين - عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام - فهو مقتدٍ بهداهم، وجارٍ على سَنَنهم، وقد كتب الله ألاّ يكون البلاغ المبين لرسالته ودخول الناس في دين الله أفواجاً إلا بسبب هذه الهجرة، التي بذل فيها النبي وأصحابه من المهاجرين والأنصار أعز ما لديهم من نفس ومال وبلد وأهل وولد، فلما علم منهم الصدق في البذل، أجزل لهم الكثير من العطاء، فمكنهم في الأرض، وأبدلهم بعد خوفهم أمناً، وأقام دينه الذي ارتضاه لعباده؛ بهم، وعوّضهم أهلاً بأهل وإخواناً بإخوان.

يتجدد علينا حديث الهجرة فنزداد حناناً لصاحبها - عليه الصلاة والسلام- وتوقيراً وتعظيماً له؛ لأنه تعرض للأخطار من أجلنا، وهاجر لينفعنا، وترك أحب البلاد إلى نفسه ليعلمنا التضحية من أجل الدين، واتخذ الأسباب العادية ليعلّمنا أنها لا تنافي التوكل على الله تعالى، وأرانا صور الإيثار الحقيقي لنعلم أن رضوان الله المطلوب هو أكبر مما يبذل من نفس ونفيس، وهاهي أمته البالغة اليوم نحو سدس سكان المعمورة، يشعرون بهذه الغِبطة العظيمة بالهجرة الكريمة التي كانت سبباً ليشعَّ نور الله في الكون كله، فالهجرة حديثهم، وعناء النبي صلى الله عليه وسلم أسوة لهم.

غير أن كثيراً منهم لا يعلمون أنهم معنيون بها في أنفسهم، بهجر ما نهى الله عنه، وهجر التواني عما أمر الله به، وهجر النفس الأمارة بالسوء، والهوى المضل، والشيطان العدو، وأهل الفساد والإفساد، فمن هجر هذه الأمور فهو مهاجر حكماً، وإن لم يكن مهاجراً فضلاً، وهو بذلك يترقى في مقامات العبودية للملك الديان الذي أعد لمثل هذا المهاجر «ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»، إنها جنات عدن التي أعدها الله للمتقين، ووعد بها الصالحين المفلحين.

فحري بمن عرف فضل هذه الهجرة أن يكون من أهلها، وأن يجعل الهجرة النبوية مرآته في جميع أحواله، فإنها وإن كانت في وقت محدد نفتخر به ونحافظ عليه ونجعله رمزنا تأريخاً وحديثاً، إلا أن أحداثها متجددة مع المسلم بتجدد أنفاسه، فلو أنه أدرك قول رسول الله: «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه» لربما جعل نفسه من المهاجرين الأول، وليس بينه وبين ذلك إلا أن يصدق في التأسي، ويحرص على النهوض بالنفس إلى المعالي.

*«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر