مزاح.. ورماح
صرت أقل شجاعة..
تعوّد الكاتب أن يشكو له القارئ فيكتب عنه في اليوم التالي، ترى ماذا لو أراد الكاتب أن يشكو همه للقارئ!
منذ منتصف هذا العام، دخلت عنوة في «ميكروويف الحزن» فهرمت فجأة، أنام باكراً كعجوز، وأصحو مفزوعاً كمن تأخر على امتحان، وفور وقوفي أمام المغسلة أتذكر أن لا شيء مهماً ينتظرني، فأعود إلى سريري متكوراً من نوبة قشعريرة وهمية، في النهار أقف ساعات كجندي على باب سفارة، أردّ فقط على الأفكار التائهة التي تسألني عن عنوان للإجابة، ثم ادوزن بندقية الوقت، وأتمشى على رصيف اللحظة المخطط بالأبيض والأسود، أرد التحية بسرعة وبكلمات محددة مثل الدمى الناطقة، أتناول طعامي على عجل مثل طبيب مناوب، بين الأصدقاء صرت الأقل حيوية، والأقل اندماجاً والأقل تعليقاً، و«الأغرب» تفكيراً، والأقل سعادة، قلبي مرجل يغلي طوال الوقت، أقف على مفترق طرق عليه أربعة شواخص مرورية كلها مكتوب عليها الطريق من هنا، فأتعمّق في الحيرة والوقوف، على هاتفي «دزينة» مكالمات فائتة، وضعفها رسائل لم تقرأ، وعشرات «الإيميلات» العالقة منذ أوائل الصيف، لا أعطي موعداً محدداً للقاء، ولا أقبل دعوة بسهولة، أحاول الهروب من كل المواجهات حتى المواجهات السلمية أو الحميمة، وعندما أفتقد كل من حولي ألومهم على قلة التواصل، صرت أقل شجاعة في اتخاذ القرار، وأقل شجاعة في المشي نحو حافة العمر، كل العصافير التي كانت تزقزق في غابة التفكير ماتت فجأة أو فرت إلى مكان أكثر دفئاً في هذا الفصل الرمادي الطويل، كلما داهمني الغروب وأنا خارج من المقهى وعلى ملابسي لم يزل دخان الأراجيل ورائحة القهوة وصوت فيروز ومارسيل وأدرت مفتاح السيارة، تذكّرت أن أمي لم تعد هناك حتى تعاتبني على تأخري، فأتمنى المكوث أكثر في الطريق، أمضي ليلي مضطرباً كمطارد، مهموماً كمدين، أحس بحرارة نزفي، ومع ذلك أخاف من خدش شعور الآخر، لا شيء يسعدني أو يفاجئني، كما لا شيء يستفزني ليغضبني، الخطوة التي كنت أخطوها وأنا مغمض العينين لا أستطيع أن أخطوها الآن وأنا مفتوح العينين وبيدي مصباح. بحاجة إلى بكاء طويل ومتواصل من دون أن يقاطعني أحد بعبارة «ليش بتبكي»؟ لا أريد أن يقاطعني أحد وأنا في أصدق حالاتي، لا أريد أن يفصلني أحد عن خدمة نفسي وأنا في أرقى تجلياتي، كل ما أريده فقط أن أبكي بحريّة كاملة، في وقت غير مقتطع من أحد، وفي أرض لا تعود ملكيتها لأحد..
«عزيزي القارئ، خلص روح، زهّقتك معي».
ahmedalzoubi@hotmail.com
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .